إعلان

 

تابعنا على فيسبوك

حان وقت ابتكار الأمة./ النانة بنت شيخنا

جمعة, 01/08/2025 - 14:43

في اتساع الصحراء الغربية الشاسعة، التي نعرفها اليوم باسم "موريتانيا"، لم تكن، قبل الغزو الاستعماري، دولة مركزية ولا سلطة سياسية موحِّدة. لم تكن هناك بنية جامعة تُلمّ شتات القبائل الرحّل، أو المجتمعات المستقرة، أو الزعامات المحلية التي تعايشت، بتفاوت، فوق هذا الامتداد الفسيح الواقع عند ملتقى المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء. كانت الجغرافيا آنذاك متحرّكة، لا تُرسم حدودها بخطوط على الخرائط، بل بمدى النفوذ الذي تبسطه قبيلة أو زعامة أو جماعة عرقية، في توازن هش بين السيادة والانفلات.

تكوَّن النسيج الاجتماعي الموريتاني تاريخيًا ضمن منظومات الولاء للعرق والنسب والزاوية. وكانت السلطة تتأسّس على الامتياز الوراثي، والانتماء إلى سلالات مرموقة أو طبقات ذات حظوة، من القبائل الكبرى أو المكونات السائدة. وظلّت هذه التراتبيات، المتجذّرة في مختلف مجتمعاتنا، حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، حيث لم تتمكن المدرسة الجمهورية، ولا المرافق العمومية، ولا مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، من اختراق الحواجز التقليدية بما يكفي. والحال أن لا وطن يمكن أن يُبنى على التفاوت، ولا دولة تستقيم على إرث من التمييز الاجتماعي.

وهكذا، فعلى الرغم من الاستقلال الشكلي الذي نلناه عام 1960، ظلت الدولة تُقام على أرضٍ منقسمة، دون أن تُنجَز عملية توحيد وطنية فعلية. لقد قدّمت الدولة الوطنية، رغم ما شهدته من خطوات جريئة — كتأميم شركة "ميفيرما"، ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا، واستحداث عملتنا الوطنية — نفسها كامتداد إداري للمؤسسة الاستعمارية، تحوّل في الشكل دون أن يُعيد تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة على عقد اجتماعي أصيل نابع من إرادة الشعب. لم تكن الدولة الجديدة ثمرة مخاض شعبي، بل نتيجة انتقال فوقي مفروض بإلحاح لحظة الاستقلال، ما حال دون ولادة تدريجية لحسّ وطني موحّد.

صحيح أن الإسلام مثّل ركيزة روحية مشتركة. لكنه، في غياب مشروع توحيدي مستقر في تاريخ المنطقة الإسلامي، لم يُترجم إلى وحدة سياسية أو هوية وطنية جامعة. لقد بثّ قيَمًا أخلاقية مشتركة، دون أن يصوغ إطارًا مؤسسيًا موحِّدًا أو يطلق وعيًا وطنيًا مندمجًا.

وهذا الماضي، وإن انزاح في الزمن، لا يزال حاضرًا بثقله في واقعنا الراهن. فالتفاوتات الاجتماعية الموروثة، والانقسامات الهوياتية الكامنة، وغياب سردية وطنية جامعة، واستمرار الخلل في أداء الدولة ومؤسساتها، جميعها عوامل تعيق تحقيق الانسجام الوطني. ولا تزال الدولة، حتى اليوم، عاجزة عن أن تكون مرجعية محايدة، تضمن الخير العام لكافة مكوناتها بعدل وإنصاف.

لذا، فقد بات من الضروري والملحّ إطلاق نقاش وطني عميق، صريح، شامل، حول أسس عيشنا المشترك. ما هي البنية السياسية التي نريدها لدولة موحدة، فعالة، ومتجذرة في مجتمع يتطلّع إلى التنمية والتقدم؟ كيف نُعيد صياغة مؤسساتنا على أسس ديمقراطية حقيقية، تُعبّر عن الجميع؟ ما السبل لضمان المساواة الفعلية في الحقوق، والفرص، والواجبات؟

ليست هذه الأسئلة من جنس الترف الفكري، بل من صلب معركة البقاء الوطني. وإن نحن تهيّبنا مواجهتها، فسنظل عالقين في منطقة رمادية: لا نحن بُناة وحدة ناجزة، ولا نحن في حالة انهيار تام، بل مجتمع معلق بين ماضٍ متشبّث وأفق خجول. والكل يعلم أن المجتمعات المتعددة، حين تسكنها الظلال، تصبح معرضة للارتباك، وربما للانفجار.

لقد آن الأوان لفتح صفحة جديدة. لا نُنكر فيها الموروث، بل نُجاوزه نحو أفق أرحب. لا نعيد إنتاج التراتبيات القديمة في حُلَل عصرية، بل نبني دولة عادلة، تحتضن مشروعًا جماعيًا واعيًا.

لقد حان وقت ابتكار الأمة.
وإن نحن صدقنا العزم، فالأساس موجود. فنحن، رغم اختلافاتنا، نشترك في جذور روحية وأخلاقية واحدة. نحن جميعًا مسلمون. نحتفل بنفس الأعياد، نصلي بلغة واحدة، ونسترشد بقيم متقاربة. ثقافاتنا، على تنوعها، تتقاطع وتتماوج. موسيقانا، وأزياؤنا، وأمثالنا، وحكاياتنا الشعبية، وأساليبنا في الترحال والإقامة، تنسج مجتمعة نسيجًا غنيًا من التجارب المشتركة.
ذاكرتنا، بما تحمله من ألم ومجد، تحكي قصص اختلاط الشعوب، وتَكَوُّن الهويات، وشوق الجميع إلى الكرامة.
تلك هي ثروتنا الحقيقية، إن نحن وُفِّقنا إلى رؤيتها بوعي، والاعتراف بها، وجعلها منطلقًا لتخيل جماعي جديد. لكن ذلك لن يتحقق دون نظر صريح إلى الذات، بلا أوهام ولا أعذار ولا ريبة. فإن تجرأنا على تسمية جراحنا، وفهمنا أسبابها، أمكننا حينها أن نضمدها. وهذا الوطن، الذي يظنه البعض محكومًا بالفشل، سيُثبت أنه حامل للوعود، قادر على تجاوز عثراته، وكتابة فصل جديد من تاريخه.
نعم، إن اتفقنا على التقدّم يدًا بيد، فسنكذب أولئك الذين يزعمون أن لا شيء سيتغيّر، وأن المصير قد كُتِب وانتهى. فليس الانبعاث من سلطة مفروضة، ولا من احتجاج متفرق، بل من إرادة جماعية صادقة، توحّد الذاكرات، وتنسق الطموحات، وتُعيد صياغة الدولة على أساس عادل جامع.
هكذا، فقط، يمكن لموريتانيا أن تُصالح نفسها… وأن تختار، أخيرًا، مستقبلها.
مستقبلًا آمِنًا… حاملاً للتفاؤل
 النانة منت شيخنا 
نائب رئيس حزب التكتل