إعلان

 

تابعنا على فيسبوك

ظاهرة الحشود الصاخبة/ محمد فال ولد بلال

سبت, 13/09/2025 - 20:39

ظهرت في السنوات الأخيرة طريقة عمل سياسي و/أو ثقافي اكتسحت الساحة دون غيرها من الطرق والأنشطة، هي طريقة "الحشد"• وما أدراك ما الحشد•• في حدِّها الحدُّ بين اللعب والجِد. في الواقع، هي طريقة موجودة منذ ميلاد الدولة، لكنها انتشرت وتشعّبت وتمكّنت في الأزمنة الأخيرة حتى أزاحت كل الطرائق والأنشطة الأخرى. لم تعُد السياسة تخاطب الأفراد والجماعات العادية. ولم تعُد تمارَس بانتظام داخل  القوالب القديمة مثل الأحزاب والمنظمات، بل أصبحت تمارَس خارج كل الأطر التنظيمية. لم نعُد نسمع عن حملات الانتساب، ولا المؤتمرات و الاتحاديات والأقسام والفروع. ولم نعُد نسمع عن حلقات النقاش، وجلسات الحوار، وملتقيات الكوادر، والندوات الفكرية، والأعمال التطوعية، وحملات التوعية، والمقالات الصحفية، إلخ.
اختفى كل شيء، ولم يبق في المشهد سوى تسابق السياسيين - موالاة ومعارضة - إلى حشد الساكنة بسبب ودون سبب•• يحدثونك عن "حشد" فلان، و"حشد" علان، وزيد، وعمرو، وزينب، وهند. تارة يكون الحشد على شكل "مبادرة", وتارة على شكل "ندوية", أو "مهرجان ثقافي"، أو "مسيرة", أو "حفل", أو "عطلة", إلخ.  ويلبسونه ثوب "القبيلة" أحيانا، وثوب "الشريحة" و "الفِئة" و "الحلف" و "القرية " أحيانا أخرى• فما من قرية ولا مدينة ولا قبيلة ولا طائفة ولا زعيم إلاّ وأقام "حشده" ، كما في لعبة "الدُّومينو"• 
تختلف الحشود باختلاف أشكالها إلى نوعين: حشود افتراضية عبر ما يعرف بالذباب الإلكتروني، وحشود واقعية عبر الأنصار والزبائن والأتباع. وتختلف أيضا بأهدافها ومراميها إلى نوعين: حشود إستعراضية وحشود احتجاجية.  الحشود الاستعراضية عبارة عن كوميديا هزيلة يحاول من خلالها "الفاعل" السياسي إظهار "شعبيته", ولها قدرة فائقة على التصفيق والتأليه والتمجيد. أما الحشود الاحتجاجية ، فهي عبارة عن جموع جاهزة لإثارة الفوضى وتهييج الشارع،ولديها قدرة هائلة على الشغب والتخريب. وهي أيضا وسيلة من وسائلة الضغط وإظهار القوة. وكلا النوعين خطر على العملية السياسية. الحشود الاستعراضية تنفي العقل والوعي والضمير. والحشود الاحتجاجية تفتح باب الشغب والفوضى.  بالمُجمَل، فإن "التحشيد" ليس هو الطريقة الأمثل لمعالجة التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي تشهدها البلاد، ولا يجسد معنى الإصلاح الذي يسعى إليه فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.  وذلك لسبب واضح، وهو أن الحشود بطبيعتها تناهِض التبصر والتعقل والتفكر. إنها عبارة عن "روح جماعية مؤقتة" و "حالة ذِهنِية عابرة" يفقد الفرد خلالها فَرْدِيَّتَه وشخصيته وقراره.  وقد أظهر العلماء أنها أيّا كان شكلها عندما تتحرك تشبه "السّائل المتدفِّق"• يخضع فيها الفرد لحركة شاملة و تَمَوُّجٍ يمنعه من التفكير بذاته وتقرير مصيره، بالضبط كما يحدث داخل "القطعان" بسبب التدافع والازدحام•
* ختاما
ولهذه الأسباب، ينبغي للعمل السياسي والثقافي أن يحمِل إلى الجماعات والأفراد رسائل مدنية ومتبصرة ومفيدة بشكل منتظم ومتواصل حتى تثمر؛ وإلاّ تحوّل إلى غوغاء وصخب وأنشطة "فلكلورية" لا طائل من ورائها. 
وإذا كانت معظم الدلائل والمؤشرات تؤكد أن المجتمع - في سياق تطوره التاريخي - يمر بمرحلة صعبة و معقدة، فإنه من المؤسف أن تنشغِل النخبة السياسية بالحشود الزائفة والنقاشات البيزنطية بدلا عن الحوار والتفاهم والعمل الجاد•
والله ولي التوفيق