إعلان

تابعنا على فيسبوك

إمارة الجولاني.. قندهار سورية برعاية إقليمية

أربعاء, 30/04/2025 - 15:37

في سوريا، حيث صار الخراب هو الثابت الوحيد، يتشكل مشروع خطير تحت رعاية إقليمية وصمت دولي مريب: "إمارة الجولاني"، نسخة محدثة من قندهار، يقودها زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني.

رجل خرج من عباءة القاعدة، وها هو اليوم يعيد إنتاج كارثة التطرف تحت مسمى "التحرير"، فيما تُطوى صفحة التعددية السورية أمام عيني العالم، ويُجرى اليوم ذبح ذاكرتها علناً بسكين رجل واحد.
بعيداً عن الصورة التي يحاول الجولاني تسويقها للعالم كرجل "انفصل عن الجهادية العالمية"، فإن الواقع على الأرض يكشف شيئاً أكثر ظلاماً: مشروع شمولي متطرف يستهدف سحق الأقليات الدينية والطوائف غير السنية التقليدية، بل حتى السنة المعتدلين، الذين لم ينخرطوا في خطابه التكفيري، يُنظر إليهم كخصوم محتملين ينبغي تدجينهم أو سحقهم.

مجازرٌ صامتة

في سوريا، وتحديداً في المناطق الخاضعة لقبضة الجولاني، يجري ذبحٌ جماعي للتعددية الدينية والروحية التي ميّزت البلاد… ما يحدث اليوم أبعد من تطرفٍ ديني معزول، إنه مشروع استئصال كامل، مدعومٌ ومدفوع إقليمياً، لإقامة دولة دينية فاشية تُطهِّر الأرض من المختلفين أو تدمجهم قسراً كعبيدٍ في عباءة السلفية الجهادية لتناسب مصالح اللاعبين الكبار.
تحت شعار "من يُحرِر، يُقرِر"، تمارس سوريا نسخة حديثة من التطهير العرقي "البارد"، تطهير لا تلتقطه نشرات الأخبار ، لكنه يخنق ببطءٍ جميع الأديان والمذاهب.
قد يتوهم البعض أن الأغلبية السنية ستكون الحاضنة الطبيعية للجولاني، إلا أن الوقائع على الأرض تؤكد أنها لم تسلم من مشرط القمع، فلا مكان للصوفية، التي كانت لعقود رئة التصوف الروحي في بلاد الشام. لا للمذاهب الأربعة بتنوعها، بل مذهب واحد: السلفية الجهادية المشوهة. لا مكان للإسلام الحضاري الدمشقي الذي عمر المساجد والمدارس بوسطية وفكر حر. المطلوب اليوم هو سُنية مشوهة، معجونة بالخوف والطاعة العمياء، مفصّلة على مقاس مشروع الإمارة الداعشية المغسولة بالسُكر السياسي. أكدت شهادة موثقة نشرتها هيومن رايتس ووتش أن رجال الدين التقليديين،
دعاة الفكر الشافعي أو الحنفي أو الصوفي، يتعرضون إما للاعتقال أو للتهديد أو للإجبار على الصمت والهجرة.
تحت حكم الجولاني، لا يجري فقط قمع السنة المعتدلين، بل يمتد السكين أبعد: ليطال المسيحيين والعلويين والدروز والشيعة والإسماعيلين وغيرهم من الأديان والمذاهب، في عملية اجتثاث طائفي تُنفذ بدم بارد، ليس عبر المجازر العلنية فقط هذه المرة، بل من خلال التهجير القسري الصامت، والملاحقة الممنهجة، وتدمير الرموز الدينية، فبحسب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أُجبر المسيحيون على الفرار تحت التهديد والاعتداءات الممنهجة. جرى تهجير عددٍ من سكان بعض القرى ذات الغالبية العلوية أو الشيعية منذ وصول الجولاني إلى السلطة، تحت تهديد مباشر أو عبر حملات تضييق اقتصادية وأمنية ساحقة.
لم تتوقف آلة الكراهية عند التهجير فحسب، بل طالت الرموز أيضاً. عشرات المقامات الدينية، كمقام الشيخ أبو الحسن في ريف إدلب، ومقام السيدة سكينة قرب سراقب، تعرضت للحرق أو الهدم المنهجي. مقابر جماعية قديمة تم نبشها عمداً، في محاولات لطمس أي أثر للوجود المختلف. أضرحة الأولياء ورموز التصوف العلوي تعرضت للسحق بالجرافات، دون أن يرفّ جفن لسلطة الجولاني.
ووفق تقرير خاص لمنظمة Religious Freedom Watch ، هناك أدلة موثقة على أن "هيئة تحرير الشام" أعطت "هيئة تحرير الشام" غطاءً شرعياً ضمنياً لهذه العمليات، عبر فتاوى تدعو إلى إزالة "مظاهر الشرك والبدع"، ما فتح الباب واسعاً أمام استهداف الأقليات الدينية.

هذه الإبادة الدينية والثقافية، التي لا تصوّرها الكاميرات، أخطر بكثير من الإبادة الدموية؛ إ نها محو للذاكرة، وسحق للهوية، وتهيئةٌ لجيل لا يعرف أن جده كان يصلي في مسجد شافعي، وجاره كان يزور مقاماً درزياً، وصديقه كان يوقر مزاراً شيعياً.
في مشروع الجولاني، لا مكان لاختلاف ولا لذاكرة مشتركة، فقط حقل ميت، تسود فيه راية الموت الروحي.
شريعة السوط والنار
لا وجود للقانون في الإمارة المتطرفة. القوانين الوحيدة السارية مستوحاة من نسخة مشوهة من الشريعة، حيث تُلغى الحريات الشخصية، وتُكمم الأفواه، وتُدار الحياة الاجتماعية بسطوة الأمراء الدينيين والمفتين الميدانيين.
تُفرّغ المناهج التعليمية من أي مضمون إنساني أو تنويري، وتُستبدل بدروس عقائدية تُلقن الأطفال منذ نعومة أظفارهم أن الاختلاف كفر، وأن "الجهاد" ضد المختلفين واجب مقدس، ما يخلق ثقافة تمجد الحرب الدينية وتزدري السلم الأهلي. والنتيجة إنشاء جيل كامل يُغسل دماغه ليعيش في ماضٍ ميت، بينما العالم من حوله يبني المستقبل.
لا تعود المرأة كائناً اجتماعياً له حقوق وحضور في مشروع الجولاني، بل تتحول إلى أداة قمع ذاتي في خدمة منظومة الاستبداد الديني. الحجاب المفروض يتحول إلى شارة إذلال لا اختيار فيه . القيود على حركة النساء لا تنبع من الدين، بل من مشروع السيطرة الكاملة على الجسد والعقل معاً. الطفلة تُربّى على الخوف من الحلم، التكفير وحتى الضحك، والمرأة الشابة تُختصر إلى ظل تابع لرجل مكبوت. تُجبر النساء على إنجاب وتربية جيل جديد من "المجاهدين الصغار"، ليكونوا أدوات مستقبلية لاستمرار المشروع الفاشي.

الرعاية الإقليمية:

لعل التاريخ يعيد نفسه بطريقة مفجعة؛ فقد شهدت دمشق نفسها ذات يوم ظاهرة شبيهة حين اعتُقل ابن تيمية، الفقيه المتشدد الذي غذّى أجيالاً من الفكر الإقصائي. أودعته السلطات في سجون القلعة بعدما أثار فتنته بين المذاهب، وحرّض على تكفير طوائف المسلمين، فكان حبسه محاولة لكبح ذلك السيل الجارف من الكراهية المتلفعة برداء الدين. اليوم، في ظلال الجولاني، تستعاد روح ابن تيمية في أبشع صورها، لكن بدون حاكم يحبسها أو مجتمع يجرؤ على كبحها. يجد الجولاني نفسه اليوم في فراغ سلطوي، يحميه تحالف الضرورة الإقليمي، ويتيح له العبث بالنسيج السوري دون رادع.
تتصدر تركيا إحدى أهم قنوات هذا التحالف الإقليمي. من خلال السيطرة على المعابر الحدودية والإشراف على حركة المعونات الإنسانية، تعمل أنقرة على تكريس سلطة الجولاني كأمر واقع في المنطقة، ما يمنحه غطاءً سياسيًا يتماشى مع مصالحها في إدارة الفوضى بدلاً من محاولة إنهائها.بحسب تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (٢٠٢٤)، فقد تعاملت أنقرة مع "تحرير الشام" باعتبارها "أداة جيوبوليتيكية لتأمين مصالحها في إدلب ومنع إنشاء كيان كردي متصل شمال سوريا".
إلى جانب تركيا، هناك شبكة من الدعم المالي تتدفق من بعض العواصم الخليجية عبر مؤسسات تُعلن عن نشاطاتها الخيرية والدعوية، لكنها في الواقع تموّل مشاريع فكرية متطرفة تشكل أرضية خصبة لإنتاج المزيد من الفوضى في المستقبل. الدعم الخارجي لمشروع الجولاني، كما كان الحال مع الجماعات الجهادية في أفغانستان والبوسنة في التسعينات، يُعيد إنتاج نماذج سابقة تم التغاضي عنها دولياً حتى تحولت إلى تهديدات خطيرة.

خطر يتجاوز الجغرافيا

خطر هذا المشروع لا يقتصر على الداخل السوري فقط، بل قد يتحول مستقبلاً إلى مصدر عدم استقرار إقليمي ودولي، عبر تصدير الفكر التكفيري المُقنَّع تحت عباءة السياسة. فما تبنيه اليوم آلة الجولاني بدعم إقليمي ودولي ضمني، ليس تحريراً، بل تأسيس لإمارة طائفية مغلقة، ستدفع المنطقة ثمنها لعقود.
التجارب علمتنا أن الفوضى الفكرية أكثر استعصاءً من الفوضى العسكرية. ومثلما خرج تنظيم القاعدة من رحم التوظيف الدولي، قد تخرج غدًا شبكات أكثر خطرًا من رحم إمارة الجولاني، ما لم يتم احتواء هذا الخطر مبكرًا.
الرهان على سقوطه ذاتيًا رهان خاسر؛ فكل تأخير يعني مزيدًا من التفكك الوطني، ومزيدًا من التوحش المبرمج تحت عباءة "الإصلاح". وإن دفعت سوريا اليوم وحدها كلفة هذه الكارثة، فلن يطول الزمن حتى تصل ارتداداتها إلى عواصم القرار نفسها.
أحمد علي إبراهيم
صحفي ومحلل سياسي سوري