إعلان

تابعنا على فيسبوك

تاريخ أميركا في تصفية الأعداء.. الإرهاب والمخدرات كذرائع للقتل

أربعاء, 17/12/2025 - 12:02

"اُقتل الجميع"، هكذا أمر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث قائد العمليات الخاصة في أثناء تعقّب "مُهرّبي المخدرات" المزعومين قبالة سواحل جزيرة ترينيداد جنوب البحر الكاريبي. وبعد أن أشعلت غارة صاروخية النار في قاربهم، وشوهد "ناجيان يتشبّثان بما تبقَّى من المركب، حين قضت عليهما غارة أميركية ثانية".

لقد تدرَّجت عمليات القتل خارج نطاق القضاء هذه منذ 2 أيلول/سبتمبر الماضي، لإدارة ترامب لإبادة "إرهابيي المخدّرات". وعلى مدى الشهرين الماضيين، قُتل ما لا يقلُّ عن 80 شخصاً في أكثر من 20 هجوماً بناءً على مزاعم باطلة بشكل واضح، عن أنّ الحكومة الفنزويلية مصدر رئيسي للمخدّرات التي تتدفَّق إلى الولايات المتحدة. وتدَّعي الإدارة أنَّ مُهرّبي المخدّرات المزعومين يخوضون في "نزاع مسلح" ضدّ الولايات المتحدة، وبالتالي لا يحقُّ لهم الحصول على الإجراءات القانونية الواجبة أو غيرها من الحمايات، كتلك الممنوحة للناجين من حطام السفن بموجب قوانين الحروب، حيث اعتبر هيغسيث أنّ "كلّ مهرّب مخدّرات نقتله ينتمي إلى منظمة إرهابية مصنّفة".

ولا يقتصر دور استخدام اللغة على التبرير القانوني فحسب، بل إنّ مصطلح "إرهابي المخدّرات" يهدفُ إلى تجريدهم من إنسانيتهم ​​وتخدير مشاعر الأميركيين، حيث تصبح عمليات القتل "مُبرّرة أخلاقياً"، ومن ثم تُؤدّي إلى عقاب شديد، وتُضعف احتمال تعرُّض صيادين أبرياء للقصف والتفجير وتقطيعهم إرباً، فالقوانين لا تخفّف من عزيمة قادة الولايات المتحدة للدفاع عن الوطن.

قد تكون هجمات القوارب غير قانونية ومُروّعة، لكنّ سلوك إدارة ترامب يتبع نمطاً تاريخياً طويلاً للولايات المتحدة، بالقول إنّ أعداء أميركا يعملون خارج الحدود الحضارية المقبولة، مما يُبرّر ردّ الولايات المتحدة القاسي تحت مفاهيم الأمن القومي، أو المصالح الاقتصادية، أو التفوُّق العرقي، أو القيم الإنسانية الأساسية، أو أنّها تحشدُ كلّ هذه المفاهيم في آن واحد.

في كتابه المثير للاهتمام، "مطاردة قطّاع الطرق حرب أميركا الطويلة على الإرهاب "، يكشفُ المُؤرّخ مايكل إِي. نيغل، عن ثبات استخدام مصطلحات "تشير إلى الإجرام، والفظاظة، وعدم شرعية الأسباب والوسائل على حدّ سواء"، مثل كلمات ومصطلحات، قُطّاع الطرق، والمُتوحّشين، والمُسلَّحين الإرهابيين. ويقول نيغل، "من المُؤكّد أنَّ هذه الأوصاف المهينة كانت لها فائدتان متميّزتان، الأولى، حشد الدعم الشعبي والسياسي في الولايات المتحدة من خلال التلميح إلى اختلافات ثقافية تُوحي أو تُعزّز الشعور بالتفوُّق الأميركي، والثانية، تبرير التوغُّلات الخارجية التي منحت الولايات المتحدة نفوذاً أكبر في مناطق ذات أهمّية استراتيجية.

يدفعنا كتاب نيغل إلى التساؤل عن ضرورة الحرب العالمية على الإرهاب وتكاليفها من منظور غير تقليدي، بينما قد يكون إن لم يُفكّر معظم القرّاء في المقارنات بين مطاردة أسامة بن لادن، و"الحروب الأبدية" في أفغانستان والعراق"، وأيضاً عمليات المطاردة وحروب العصابات التي طواها النسيان قبل قرن أو أكثر، مثل الفلبين في مطلع القرن الماضي، وفي المكسيك خلال الحرب العالمية الأولى، وبعدها في نيكاراغوا في العشرينيات والثلاثينيات، حيث خاض الغزاة الأميركيون حملات مُروّعة ضدّ أعداء وصفوا بالمتوحّشين أو قطّاع الطرق الذين يُحرّكهم الجشع أو التعطُّش للدماء، عوضاً عن وصفهم أنّهم أهداف سياسية "مشروعة".

على سبيل المثال، استخدمت حركة التمرُّد الفلبينية بقيادة إميليو أغوينالدو بين أعوام 1899 و1902، "الهجمات المباغتة، والفخاخ المتفجّرة، وعمليات الاغتيال"، كما يُشير نيغل في كتابه، وهي تكتيكات "برَّرت أعمال الانتقام والترهيب الوحشية التي كانت تُعتبر في العادة غير حضارية أو غير أخلاقية، حيث غالباً ما كان الجنود يتجاوزون أو يخرقون قواعد الاشتباك التي أُقرَّت حديثاً، مما أوجد إطار عمل سيُستخدم في الحروب المستقبلية".

وقبل وقت طويل من أن تسمح إدارة جورج دبليو بوش بالتعذيب والاحتجاز غير المُحدَّد لـ "المُسلَّحين الأعداء غير القانونيين"، قامت القوات الأميركية في الفلبين بتعريض المتمرّدين لـ "علاج الماء" وإلقاء آلاف الفلبينيين في مُعسكرات الاعتقال. وبعد قمع تمرُّد أغوينالدو، انصاع وأدَّى في النهاية يمين الولاء للولايات المتحدة.

مع ذلك، لم يُقبض على بانشو فيا ولا أوغوستو سيزار ساندينو من قبل مطارديهم الأميركيين. وفي هذه الحالات، كما يرى نيغل أنّ واشنطن حقَّقت أهدافها الأوسع في إنهاء التهديد على الحدود الأميركية المكسيكية وقمع ثورة ساندينو ضدّ الاحتلال الأميركي في نيكاراغوا.

لكنّ هذه الانتصارات جاءت بثمن باهظ. فقد لقي الآلاف حتفهم في عشرات المعارك الصغيرة التي امتدّت لسنوات. ولعلّ بانشو فيا كان ينوي إثارة ردّ فعل انتقامي واسع النطاق عندما شنّت ميليشياته غارةً على بلدة كولومبوس في نيو مكسيكو داخل الولايات المتحدة، ما أسفر عن مقتل 18 أميركيا وإثارة غضب عارم في جميع أنحاء البلاد. وقد غذَّى كلا التدخّلين الأميركيين المشاعر المعادية للولايات المتحدة، بينما حوّلا فيا وساندينو إلى بطلين، مع أنّ الأخير كان أكثر شعبية في أماكن أخرى من أميركا اللاتينية أكثر مما هو في بلاده.

ويخلص نيغل إلى أنّ "النتائج المتناقضة لهذه المُهمّات تُظهر الأهمّية الأوسع لإدراك حدود القوة العسكرية". وعلى نحو متكرّر، أعمت لغة نزع الشرعية المسؤولين الأميركيين عن التكاليف المحتملة للحرب. وبينما قد يكون سلوك العدو قد تجاوز الحدود كلّها، لكنّ محاولة قتله أنتجت مجموعةً جديدةً من العواقب غير المقصودة. أو كما يقول نيغل، "من المفارقات المأساوية للحرب العالمية على الإرهاب أنّه كلّما طال أمد الصراع، ازداد التطرُّف".

يظهر أرنستو تشي غيفارا مصحوباً بسخرية النقّاد الأميركيين في كتاب "مطاردة قطاع الطرق"، بوصفه "ثورياً مُحترفاً يفتقر إلى الاقتناع"، لكنّه مع ذلك كان مُصمّماً على تصدير الماركسية إلى العالم الثالث. فلقد كان غيفارا عُرضةً لنوع التفكير السوريالي نفسه الذي يخضع له خصوم الإمبرياليين. ويقول نيغل، إنّ وصف مهمات غيفارا في الكونغو وبوليفيا بالكارثية، حيث إنّه ومقاتليه غير المنظّمين افتقروا إلى الدعم الشعبي في كلا الموقعين، يتجاهلُ كتابه الخاص حول "كيفية تحقيق النجاح في حرب العصابات".

 إضافة إلى ذلك، لقد تخيَّل غيفارا نوعاً من نظرية الدومينو، حيث إنّ بطولاته ستلهم "ثورات مماثلة في الدول المجاورة، بما في ذلك وطنه الأرجنتين، وهذا كان "حلم غيفارا الأكبر". وقد تمكَّن الجيش البوليفي، بدعم وتدريب ومعلومات استخباراتية أميركية، من القبض عليه وإعدامه، ثم عرض جُثمانه أمام العامة. ومع أنّ حملته العالمية لم تنجح، "لكن بعد وفاته، ازدهرت سُمعة غيفارا، ولقد حفَّز إخلاصه نموذجاً للثوّار الآخرين ذوي التفكير المماثل في أميركا اللاتينية والعالم.

يُطرح سؤال جوهري يربط بين الأمثلة المتباينة التي ذكرها مايكل نيغل، وهو هل يُحدث القبض على زعيم الأعداء، أو قتله فرقاً ذا قيمة ومغزى؟ فلقد قُتل بابلو إسكوبار زعيم تجارة المخدرات الإرهابي سيّئ السمعة، الذي جنى مليارات الدولارات من إدمان الولايات المتحدة على الكوكايين، برصاص السلطات الكولومبية عام 1993. ومع ذلك، ملأت عصابات أخرى الفراغ، ولا تزال كولومبيا حتى اليوم تُنتج نحو 90% من مسحوق الكوكايين الذي يصل إلى الولايات المتحدة"، وفقاً لإدارة مكافحة المخدّرات الأميركية.

وفي خضمّ الغضب العارم الذي أعقب هجمات تنظيم "القاعدة" الإرهابي قبل ربع قرن، لم يتوقَّع سوى قلّة من الأميركيين، من صُنّاع القرار إلى المواطنين العاديين، أنّ الحروب المقبلة ستُكبّد البلاد خسائر فادحةً في الأرواح والأموال والهيبة الوطنية. وبالنسبة للكثيرين، لم يكن يُهمُّهم سوى أنّ أسامة بن لادن كان "قاتلاً جماعياً شرّيراً يكرهُ الحرّية"، لذلك وعد الرئيس بوش أنَّه "سيخرجه من مخبئه".

وبحلول الوقت الذي تمّ فيه تعقُّب بن لادن في باكستان بعد عقد من الزمن، كان الرأي العام الأميركي قد فقد تأييده للحرب العالمية على الإرهاب. وطرح السؤال مُجدَّداً إنْ كان لقتل مُؤسّس تنظيم "القاعدة" أي أهمّية آنذاك؟ وماذا عن ملايين الناس الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب من جرّاء "الحروب الأبدية" وتدفُّق اللاجئين عبر منطقة الشرق الأوسط الكبير. 

يُشجّع كتاب مايكل نيغل القيم على مواجهة هذه الأسئلة مرة أخرى. وكما كان واضحاً منذ زمن طويل، ولكن غالباً ما يُتجاهل، حيث لا يُمكن لواشنطن أن تتجنَّب "قانون النتائج غير المقصودة"، بغضّ النظر "عن مدى شرّ، أو وحشية أو تخلُّف أو إجرام أو لا إنسانية أعدائها".

مارتن دي كارو

الميادين نت