الأخبار
مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح 9
الأحد, 14 فبراير 2021 22:09

تقلب في بنغازي

مشهد سريالي في تيبستي هذا الصباح. أُعلِنَ عن وصول بعثة الاتحاد الإفريقي التي كانت أمس في طرابلس والتي أتت إلى هنا لتقترح على المجلس الوطني الانتقالي خطة للخروج من الأزمة؛ زاعِمةً أنه "مُتوازن" لكنّها اتفقت في الواقع؛ مع "الأخ القائد". من المتوقع أن يصل المالي آمادو توماني توريه، والموريتاني محمد ولد عبد العزيز: ومن الكونغو داتي سوسُو نغوسُو، ووزير خارجية أوغندة وكذلك من حيث المبدأ وزير خارجية جنوب إفريقيا جاكوب زوما ‏ هذا الذي ذكر لي ساركوزي كثيراً من إيجابياته: إلى هذا الحدّ أو ذاك؛ يبدون جميعاً في صف القذّافي فقد سمّمهم واشتراهم (هذا ما قاله لي باتريك ميل هذا الصباح من باريس وللأسف: لديّ شعور بأنه على حقٌ(. . بدأ الجمهور من الساعة التاسعة يتجمّع أمام الفندق. وفي العاشرة صار العدد عشرة آلاف، ورُبّما أكثر من المتظاهرين الُمغتاظين من حرارة الشمس والمهتاجين من طول الانتظار والغاضبين أشدٌ الغضب من موكب السيّارات الرسمية الُمستعدّة لشقٌّ صفوفهم المتراصّة كي تصل إلى باحة المدخل وتُنزِل رُكباها المرفْهِين وتوسّع الشقٌّ أمامها لتُتيح لها الدخول؛ بين الزحمة الناتجة عن المتظاهرين أنفسهم الذين استطاعوا الوصول إلى مظلّة مدخل الفندق. كان المتظاهرون يهتفون بشعارات مُضادّة للقذّافي. ويدفعون شيئاً فشيئأ وبقوة؛ الحواجز الموضوعة على مسافة 100 متر عند أسفل السُّلَم كي تتسّع الجمهور الضخم. وحين لم يعودوا قادرين على دفعها أكثر من ذلك حاولوا القفز من فوقها وعندما تحرّكت قوى حفظ النظام كي تُرجعهم إلى الوراء راحوا يهتفون هتافات تتهّمهم بالخيانة؛ ويسخرون من السلطات ويقذفون بالشتائم التي بدت لي كما سمعتها أنها مُعادية لأفريقيا وعنصرية. وفي لحظة مُعيّنةَ عند وصول السيّارة الثالثة الساعة العاشرة والنصف، وهي سيّارة ممثّل مالي راودني شعور بأن الأمور قد تسوء فعلاً فهل من العدل أن يسود هذا الجو الصاخب الذي أثارني أنا أيضاً مما دفعني إلى أن أستعير مُكبّر صوت من أحد قاذفي الشتائم وسحبت منصور من يده وصعدت على سطح إحدى الشاحنات وهنا لستٌ أدري ما الذي أغضبني فاندفعتٌ ومنصور يُترجم ألقي خطاباً غريباً مُلتهباً وعقلانياً في الوقت نفسه وكنت في ذاك المساء ما أزال أجهل إن كان خطابي قادراً حقّاً على تهدئة الخواطر أم إن كان على العكس يصب الزيت على نار الاهتياج السائد: "أنا فرنسي" قلت هذا أمام الأنظار المندهشة للجمهور الذي من الواضح أن ليس لديه أيْةَ فكرة عن هذا الأرعن الذي يتوجّه إليه وأمام المبعوث الأميركي الشاب كريس ستيفنز الذي أخبرني لاحقاً بأنّه كان موجودآ وكان أكثر اندهاشاً أيضاً وهو يُراقب المشهد من نافذة غرفته في الفندق "أنا فرنسي" صديق ليبيا أناشدكم أن تتوقفوا، العالم يُشاهدكم، يُتابعكم وهو مُعجب بكم، وحين تُعطون عن حركتكم صورة وحشية قاسية عنيفة ‏ تفقدون ميزة ثورتكم المحترمة. قدّموا للعالم الصورة المعاكسة واحتجُوا بهدوء وبضبط الأعصاب وعاملوا باحترام هؤلاء الناس غير الشرفاء الذين اشتراهم القَذَافي ويريدون بيعكم معهم، وسوف ترون كم سيعود عليكم هذا النضج وسمو النظرة؛ وهذه العظمة. بالاحترامالْمضاعَف." ومن بعد نزلت عن سطح شاحنتي وعدتٌ إل الفندق مسروراً بالأحرى لحظة انتهائي: من أدائي المتواضع وإن قلت لنفسي بسرعة قد يكون إخراجي لقذائف المثقف الضخمة وإلقائي خطاباً في جمهور من أبناء بنغازي الملتحمين في غير محله  فحاولت أن أستدرك ذلك في التصريح لأجهزة الإعلام الموجودة في بهو لفندق التي كانت تنتظر نهاية النقاشات بين الُمُفاوّضِين الأفارقة الأربعة والمجلس الوطني الانتقالي بأفكار أكثر ترابطاً: "كيف‏ وصلتٌ أفريقيا إلى هذا الموقف؟ وهل يجب أن تداس مُثل التحرّر المعهودة كي يتمكن واحد مُبتذّل كالقذَافي من أن يأخذها كرهائن؟ هيا هب يا فانون هب يا سنغور فقد صارت مثل التحرّر بائسة! نداء إلى المستشارين الكبار الذين عليهم أن يعرفوا في النهاية بأنْ هنا على هذه الأرض الإفريقية معركة دبلوماسية وسياسية أخرى يجب أن تخوضها ‏وبعجالة. فسارتر ما يزال بعد ثلاثين سنة من موته؛ يحمل برميله كصليب. ولم يبق لي إلا أن أرجو وأطلب من مارك ألا يكون -برميلي الشاحنة- صورة ذاتي التي سوف تبقى من هذه السّفرة.

الاثنين 11 نيسان/أبريل: تتمّة (مع مُقاتلي اجدابيا) هذا هو المكان الذي تُحارب فيه منذ أسبوعين. يوم لصالح الثوار واليوم الذي بعده لصالح أنصار القذّافي. والمعركة كلها من أجل السيطرة على عدّة كيلومترات من القمامة والغبار التي تفصل الباب الغربي للمدينة (الذي يُسيطر عليه أنصار القذافي) والباب الشرقي حيث المواقع المُتقدّمة للثوّار. قال لنا الساقزلي بينما كنا ننزل من السيّارات: "هذا ما كنت أشرحه لكم أمس. انتهت هذه اللعبة الصغيرة... هذه الحرب على طريقة رومل بلا رومل... حين استلمتٌ قيادة الشباب اتخذتٌ قراراً... وصل أحدّهم راكضاً إِنّهِ القائد الشابٌ بلال؛ الذي يضع على رأسه قُبَعة حمراء غريبة تُشبه قلنسوة الحريّة عند الجمهوريين والذي يشرح مقطوعٌ النفّس أنَّ رتلا من آليات القذّافي رُصِد هنا على يسارنا على مسافة عدّة كيلومترات وأنّه جاء شخصياً ليبلغ ضابط الارتباط المتمرّد الذي هو نفسه مُرتبط مع ضابط الارتباط الإيطالي الذي يضمن الاتصال مع حلف الناتو لكن مضت ساعتان على الخبر ولم يحدث شيء... "دقيقة" قال لنا الساقزلي بغضب بارد مكظوم ‏ مُصدراً من جهازه تلكي ‏ وَلكي أولأ ثم بالهاتف سلسلة من الأوامر الُمقتضّبة ترجمها لي منصور. من جهاز التلكي ‏ ولكي. يُضاعف المواقع طالباً أن تصعد إلى الخطً الأوّل وحدة جديدة من الشباب الذين التقينا بهم قبل دخول المدينة ينصبون خيامهم ليكونوا في وضع رديف. وفي الهاتف يتصل بغرفة العمليّات في بنغازي ويطلب استخدام كل الإجراءات العاجلة وأن يتم إعلام حلف الناتو دون تأخير بحضور الآليّات.. يجب أن يتوقّفُوا عن التعامّل معنا على أننا أغبياء قال هذا وهو ينهي كلامه؛ كأنه يريد أن يُسوّغ لنفسه ما يقول. لقد دُمّرت أصلاً آخر الدبّابات التي كانت في حوزتنا. أتمنّى من كل قلبي أن يكون تدميرُها ناتجاً عن خطأ. أنا لا أفهم؛ كما قلت لكم أمس كيف يُمكن أن يحدث خطأ كهذا لكن لِنْسلُّم بالأمر في النهاية. وهنا بالْمقابل الأمر واضح تماماً. تُحدّد لهم رتلاً عدوا لاشكٌ فيه ويجب أن تكون طيّاراتهم هنا في الساعة المُحدّدة. لفت انتباهه إلى أن حلف الناتو عوّض تقصيره أمس حيث دمر هنا في هذا المكان رتلاً من الدبّابات واصلة من أطراف المدينة؛ منقذا بذلك ما بقي منها. "نعم" ولكن كان لا بد من القتال. ما استغرق زمناً طويلاً جداً. هذه مشكلة جوهرية. وأود أن اتحدّث عنها مع السيّد ساركوزي إذا التقيتٌ به. في البداية عندما كان كل بلد يُقرّر, كان تحليق الطيارات قصيرا إذ يستغرق عدّة دقائق وأحيانا يستمر لمدّة ساعة. أما اليوم فالتحليق يستغرق ساعات. وكأنهم يفعلون هذا عمدا وهذا السبب أنا من الداعين في قضية دبابات ذلك اليوم؛ إلى تشكيل لجنة تحقيق تكشف كل جوانب الحادثة لأننا لا يُمكِن أن نظلٌ هكذا في عدّم اليقين والارتياب والظن... كنت أستعِدٌ لأقول له إننا نعرف كل هذا ويونس قاله لنا أمس تقريباً بالُمفردات نفسها غير أنه ما لبث أن غيّر الموضوع: "حسناً. أين كنتٌ؟ نعم. تغيير إستراتيجيتنا". ذهبنا في الاتجاه الذي كان حدده القائد الشاب بلال بينها كان الرملٌ ‏ يخمد وقع خطواتنا وثلاثة عناصر من الوحدات الخاصّة يسيرون أمامنا وأصابعهم على زناد بنادقهم الكلاشنكوف. . هبت رياح حارّةٌ خشنة. كان قراري الأول حين استلمت قيادة هذا البازار أن نحفر خنادق فقط أن نحفر خنادق. لست أدري إن كانوا يُعلّمونكم هذا في المدارس الحربية في فرنسا. أمَا أنا فحين رأيتٌ هذا... وأشار إلى امتداد الصحراء؛ والريح المحمّلة بالغبار والآثار الطريّة للآليّات التي تسمح بملاحقة ما هو بارز ‏ وهنا وهناك؛ يتمركز رجال صامتون خلف الكثبان يترقبون: "عندما رأيت هذا كل هذا هذا الاتساع الهائل هذه الأرض المكشوفة حيث يسير الناس جميعاً على هواهم أدركت أن هذا هو المكان الذي يجعلنا أكثر تعرّضاً للخطر أمام تقدّم الدبّابات وأمام صواريخ غراد". طبعا قلتُ وأنا في حال من الشرود ففكرة الأرض المكشوفة أثّرت فّي تأثيراً غريبا كأئها تقرص شيئاً في داخلي بعيدأ في عُمق أعماق ذاكري... في لا مكان حيث يُمكِن الهرب... في لا مكان حيث يُمكن الاختباء... فالتهديد في كل مكان... مهما فعلنا وإلى أي مكان نذهب نحن هدف... أضاف الساقزلي: "تماماً (ونظر إِلّ بدهشةٍ لأنني كنت أبدو غريب الملامح)؛ لهذا السبب قلت لرجالي: لن ندين الماضي ولن نحاول أن نتساءل لماذا لم يفكر أحد بهذا منذ شهر لكن بدءاً من هذه اللحظة هذا أمر فأوّل شيء ستقومون به هو أن تقبروا أنفسكم؟ . وبالفعل؛ أرى الآن بعض القنوات التي تكاد تكون غير مرثية لأنها مُلتبسة مع حدود الكثبان: وهي محفورة في الرمل وغير متّصِلة في بينها. طلبتٌ أن ننزل في واحدة منها فوجدتٌ أنْ طولها حوالى عشرة أمتار بعمق يُساوي قامة رجُل مقطوعة على شكل V وقويت حوافها بالحديد وأنزل فيها سلم بشكل مائل وقعرها الضيق جداً مُغطى بالحصى.  ثْمّة رجُلان يتربّعان الواحد في مواجهة الآخر يلعبان لُعبة الدومينو والأكثر ضخامة يوارب كفيه نظراً لضيق المكان. وبعد عدّة أمتار في طرف الأخدود. رجل ثالث ينام في كيس نوم هبّ واقفاً عند ظهورنا. ليس هناك أمكنة كافية لكل الحاضرين. لذا بقِي مارك وفوجتا على السطح وعلى كل حال لن تتوفر لها المسافة الكافية للتصوير. فالجوٌ خانق. "أمّا قراري الثاني فهو ما كنت أقوله لكم أمس في المكتب. أليس كذّلك يا أحمد؟ وأشار إلى الرجل الذي كان في كيس النوم الخمسيني ذي الشعر الأصهب وعلى عينيه الخامدتين نظارات ويلبس سترة خفيفة مُجْمّدة كتبت عليها "أُحِبكِ يا نيويورك" "هل تتذكر حين تشاتمنا المرّة الأولى التي صعدتٌ فيها إلى اجدابيا؟" أجاب الرجل نعم بصوتٍ عميق كأنّه خارجٌ من مغارة وهو نتيجة صدى الرنين. ‏ طيّب احك للسيّد برنار. تعالوا نصعد واحك لهم. صعدنا من الحفرة. فانتعش الرجل الذي استعاد في الهواء الطلّق لونه ونبرة صوته؛ بأن يحكي لي قصة هذه المُشادة الأولى التي حصلت قبل شهر مع ذاك الذي كان يصير رئيسّه. قال لي وهو يُريني كثيباً على مبعدة حوالى ستين مترا أبعد باتجاه الجنوب أيضاً: "كنا هناك. كنًا هناك أنا وبعض الرجال من المرافقين ‏ ونظر إلى مصطفى الساقزلي كأنه يُريد أن يتأكد من أن هذا ليس مزحة؛ وأنه مسموح له فعلاً أن يحكي القصّة: "كنّا هناك فوصل مصطفى الذي جاء ليتفقدنا. فقلت حينئذٍ لمصطفى: "عندي أخبار سعيدة يا رئيس؛ رجال الطاغية تراجعوا؛ فقال لي مصطفى: وبعد؟ ماذا تستنتج من هذا؟ فقلت لمصطفى: الطريق مفتوحة؛ والبريقة في متناوّل يدنا ويمكن أن نتقدم". فقال مصطفى: "لا أبدأء هذا بالتحديد ما لا ينبغي أن نفعله؛ أنتم تظلُون هنا تُعزّزون مواقعكم؛ وتحمون بنغازي فقلتٌ أنا: "أنت تقول هذا لأّنك من بنغازي تحمي مدينتك وهذا منطقي". فقال مصطفى: "أنا أقول هذا لأننا إذا تقدّمنا عشرة كيلومترات من البريقة فسوف نخسرها في اليوم التالي بينما إذا خسرنا بنغازي فلن نربحها أبداً". نظر الرّجُل من جديد إلى مصطفى الذي دعاه ليُكمل القصّة حتى النهاية وأصرّ عليه. فأكمل خافضاً صوته: "تمرّدتٌ‏ فربحنا عشرة كيلومترات وما لبثنا أن خسرناها. ومنذئذ أنا من أتباع مصطفى؟." قهقه مصطفى وفجأةٌ لكز الرَّجُل الذي كان يضحك هو أيضاً. ثْمّ ذهبنا معهما إلى صيدلية مؤقتة أقيمت تحت خيمة مع لفائف مقطعة إلى ضمادات تنتظر الجريح. ثم رحنا في اتجاه واحدة من سيّارات بك آب الّمصلّحة كيفما اتّفق يعلوها أنبوبان كنا قد رأينا نموذجاً منها على مخرج بنغازي؛ ورأينا سائق السيّارة أيضاً وهنا اعترف منصور للسائق قائلاً له قرّرتُ ألا أندهش بعد من هذه السيّارات وعانقه، وبعد مائة متر وصلنا إلى مجمع صغير مكوّن من خمس فتحات قُدور مخفيّة كليّا حيث يقف في كل منها رجل مُسلّح ببندقية هجوم؛ وبعد الُمجمّع مُباشرة باتجاه الأمام مُرتقّع من الرمل مائل ينحدر بزاوية 120 درجة نحو الجنوب تحيط به؛ في بعض الأماكن؛ أسلاك شائكة تُدعم الكثيب وتشكل هذه المرّة خطا أمامياً فعلياً. كان هناك حوالى عشرين رجلا بعضهم واقف. وبعضهم متمدّد بكامل طوله على الرَّدْم. والأكثر قِصَراً يستلقون على ظهورهم؛ وعيونهم مُتّجهة صوب السماء وهم في حال الراحة. بينما يُواجه الطوال الذين تتجاوز رؤوسهم الردم الصحراءً يترقبون الغارات وعيونهم نصف مُغمضة: ومتصّلبة: كما لو أن من الضروري ادّخار النظرات.. مدّ أحدّهم: الذي قد يكون رئيسهم منظاره الموج إلى مصطفى الذين ركّز طويلاً على شيء أمامه ‏ ثم مدّ المنظار  باتجاهي هامساً: "انظر بسرعة" تذكّرتٌ العسكري الصّربي القصير على تل غرونج على الخط الأمامي في الغابة فوق سراييفو. بدا لي هائلا بل فاحشاً د تقريباً في منظار البندقية التي أعطاني إياها أحد المقاتلين. وخلال لحظة إعادة البندقية وُمحاولتي أن أستعيدها بقوّة يديّ؛ كان قد اختفى. وشقٌ علي بعض الشيء إفهامٌ أصدقائي السبب الذي لم يجعلني أُطلِق النار عليه وأنَّ هذه ليست مهنتي وليس دوري أن الخ. لكنْ هنا لا شيء من هذا. ليس هناك من كائن حيّ. ولا من خندق أمامي يُشبه خندقنا. لكن هناك في موضع بعيد نسبيا على مسافة لا أستطيع تقديرها أجسام  سوداء كبّرها المنظار: لا شك أنه رتل الآليات الذي رُصِد قبلا مطمور هو أيضاء أو ربما يكون هذا هو الستار الطبيعي للكثيب. بقينا هنا زمناً طويلاً في صمت مُطيق في ما عدا صوت الريح والرائحة التي تأتي على دفعات من جهة الرجال المنهَكين؛ غير المغتسلين.. الرائحة التي تنتشر في كل الخنادق الأمامية في العالم وتّسهم رُبما مع الخوف الْمشترك؛ في إشاعة جوٌ الأخوّة الخاص جداً.. بعد عشر دقائق أعاد مصطفى المنظار من دون أن يُقول شيئاً، أمَا أولئك الذين كانوا مُتُكئين على الرَّدْم فعادوا وصعد أحدهم على سلّة من قصب وتسلّق آخر على سطوح خيام مطويّة بينها وقف الثالث على مُنحدر التصويب المحفور في الرمل المُتراكم وهكذا ومن دون أن يتلقّوا أية أوامر صاروا على مستوى رفاقهم. وكان ثمة خمسة رجال لم يلحظ أحدٌ أبداً وصوكّم. يُقرفِصون وراءنا وبين أرجلهم قاذفات قنابل فقاموا وأحاطوا بنا ومن دون أن ينطقوا كلمة واحدة دعُونا للجري معهم في خط مُتكسّر من دون سّرعة بسبب منصور قاصدين الطريق الرئيسة. "كل شيء على ما يُرام" قال مصطفى بعد عدّة دقائق وهو يُطلِق النار وبينما كنا نتجه إلى سيّاراتنا انبعث من بعيد (وبدا لي أنه كان قادما من مكان أبعد من المنطقة التي كنا فيها) صوت الانفجار الأصمّ للقنابل الانشطارية التي قيل لي فعلاً إن كتائب القذّافي تمتلكها، في البداية يكون تأثيرها في الخنادق طفيفاً ‏ لكنّ التفجّر التالي تحت الأرض يُقَوّض الخنادق. "ليست هناك مشكلة. هذه صواريخ غراد أطلقت من مسافة 20 كم. أسرعتٌ كثيراً لأنني لا أريد أن يمضي اليوم هكذا من دون أن تزوروا المدينة... المدينة ميتة. المدينة مُتجمّدة تحوّلت حتى هنا في الأماكن غير الدائرة؛ إلى واجهاتٍ من زُجاج. مدينة خالية تمامآ أشبه ببومباي حديثة بائسة؛ تحل أكوام القمامة محل صهر بُركانها. مرّت سيّارة تُزمّر في الشارع الرئيس الذي أطلِق عليه شارع ساركوزي. وبعد دقائق معدودة توقّفت سيّارة أخرى: صحفي من الجزيرة الوحيد الذي بقي هنا يُرافقه المحافظ الذي انبثق كالشبح. هل تُريدون زيارة المستشفى؟ نعم طبعا المستشفى. الوحيد في المدينة. وهو آخر علامة على الحياة وآخر مُفارقة في منظر يوم القيامة. قصدنا المستشفى بالمرور في شوارع أخرى؛ أكثر دماراً من تلك التي وصلنا منها. رأينا أن واجهته كواجهات البنايات المحيطة أصابتها شظايا القنابل والصواريخ. وللبرهان على القتل عرّض أمامنا أحد الأطبّاء؛ بغضب شديد جثة وصلت اليوم؛ لرجل قتل على مسافة مائة متر من هنا. رأينا أيضاً جريحاً حالتّه خطيرة يُنازع الاختناق وينبعث منه صوتٌ كصوت الحيوان وضجة هائلة؛ توسّل وصلوات في وقت واحد شفتاه تنتفخان وتنفّسان كفم سمكة. وجاء رجل لاشكٌ أنه ممَرّض وأرانا مشهد فيديو مُّصوّر على هاتفه المحمول حيث يُخصى طفل لأنّه زوّد الثُوّار بالماء حين كانوا ينصبون كميناً. كان يودٌ البكاء ولا يستطيع. ولا يملك من القوّة ما يكفي لأكثر من النشيج والفوقة التي سرعان ما تتوقّف. كنا في حال من الاشمئزاز أفقدتنا الجرأة على أن نطلّْب منه كيف استطاع الحصول على هذه الصور ومن أعطاه إيّاها وكيف. فبعد ثلاثين سنة أشعلت بطريقة آلية سيجارة قدمها لي مُراسل الجزيرة ونحن نخرج من المستشفى. في الخارج بدت سماء زرقاء رمادية شاحبة تكتسب لون جُدران المستشفى ‏ باستثناء أنّها في البعيد في ما وراء الخطوط الأمامية تصير حمراء من وقتٍ إلى آخر.

الثلاثاء 12 نيسان/أبريل (نقش آثري معاد للساميّة) الكورنيش. المحكمة العُليا. البناء الضخم الذي كان يجتمع فيه المجلس الوطني الانتقالي خلال فترة إقامتنا السابقة. نحن على موعد هذا الصباح مع أحد مُعاوني عبد الجليل الذي يؤسفني أنني لم أدون اسمّه والذي قضينا معه ساعتّين لكي نحضْر بتوجيه من رئيس المجلس لزيارة عبد الفتّاح يونس إلى الإليزيه. جئنا مشياً على الأقدام أنا وعلي ومنصور وقادم جديد انضمّ إلى مجموعتنا الصغيرة اسمه سليمان فورتيه مُهندس معماري من مصراتة. يُمثْل مدينته في المجلس الوطني ذهبنا ليل أمس لاستقباله في ميناء بنغازي: إذ وصل هو الآخر كمُوفد مصراتة الآخر الذي التقينا به خلال عشاء رؤساء القبائل عن طريق البحر على ظهر مركب حمل بالجرحى؛ واستغرقت رحلة العبور ثلاثين ساعة ‏ وجهه المّدوّر المنعم الشبيه قليلاً بوجو صيني فيه عُقّد عريضة ومُرتفعة حفرها الإنهاك. وها هو في طريقنا وبينما كان «فورتيه» يحكي لنا تفاصيل مُغامرته وبينما كنا تُحاول أن نرى كيف سنتمكن نحن على المركب نفسه. أو على مركب من النوع نفسه من قطع المسافة في الاتجاه المعاكس لنصل إلى مصراتة وقع حادث مُفاجئ حادث بسيط ويبدو أنه لا يُقارن في أية ناحية من نواحيه؛ مع الرعب الذي شهده «فورتيه». وهو لا شيء بجانب موت أخيه الأصغر الذي أصيب بطلقة في رأسه الشهر الماضي. ولا شيء طبعاً بالقياس إلى سماعه بموت أخيه الآخر الذي قتِل بدوره؛ سنة 1996 في مجزرة سجن بو سليم في طرابلس. لكنّ هذا الحادث البسيط يهمِني. وهو محمل على قِلة شأنه بكثير من المعاني التي تحيلني على أن أسجّلها هنا. ذلك أنّ واحداً من إفرازات الزمن التي كان ميشيل فوكو يقول إنها لا مثيل لها يسمح بتركيز الذهن على موقفي... نحن على مدخل الكورنيش.. على مستوى نقطة الأمن حيث يُحاول عسكريّان غير مُسلْحَين تنظيم حركة المرور. فالمتسكعون في الشوارع كثيرون. كثيرٌ من الشباب. من النساء وإذا بي ألحظٌ؛ أمامي؛ في خط مستقيم صورة القذافي مخربشة على الجدار بأسلوب الكاريكاتير الذي أعجبني في طبرق تُظهر فكيه الهائلين وقرنين نابتّين فوق جبهته في إشارةٍ إلى الإشاعة التي سبق أن سمعتها والتي تزعم أن أصله يهودي. كما بالغ عبارة صهيوني المكتوبة بحروف حمراء؛ في ادّعاء علاقته بإسرائيل. تصرّفتٌ وكأن شيئاً لم يكن. لكنْ اتفقتُ سراً مع جيل كي أتأكّد من أنّه هو أيضاً رأى ما رأيت. ووضعنا سيناريو يُنفّذه حالاً مُستغلاً دقيقة أبتعد عنه خلالها: "إيه أيها الأصدقاء! ما هذا النقش المُعادي للسامية الذي مررنا به توًاً؟ من حسن الحظ أن برنار لم يُلاحِظ شيئاً. لأنَ عليكم أن تعرفوا أن هذا النوع من القذارة قد يكلّفكم خسارة دعمه لكم ‏ وهذا هو النوع من التفاصيل الذي لا يحتمل السماح عندنا في الغرب". ذُهول الأصدقاء... ذهول البراءة وصفا النيّة... قال علي: "أشياء غير مُراقّبة"... ويُزيد سُليمان: "ولا تحمل أيّة دلالة"... وشدّد منصور قائلاً: "ما البلد الذي لا يوجد فيه بعض العداء للساميّة؟ حتى عندكم في فرنسا؟ ألم يحكي لنا برتار ذلك المساء عن الفاشيّة الفرنسية التي وصفها في واحدٍ من كتبه. على أيّة حال هذا غير مقبول". وبعد ساعتّين خرجنا من المحكمة العليا بعد انتهاء موعدنا مررنا ثانية بالمكان نفسه. لم تعد القذارة موجودة. . كانت بكل بساطة قد محيت وحلّت مكانها مساحة بيضاء طْلِيَتُ بالجبس؛ مثلما طُّليت الجدران في طبرق لإخفاء بقع الدم بلون قريب من الأبيض... وقياساً إلى منفيين منذ ثلاثين أو أربعين عام يُعدَ علي ومنصور نشيطين فعَّالّين جدَاً! أما هذا الحادث فقرّرتٌ أن أدوّنه هنا ليس في سلبيات مدينة تنهال عليها منذ اثنين وأربعين عاماً دعاية بلهاء. بل في إيجابية إدارة قرّرت منذ اليوم أن تَعُدَ معاداة السامية خارجةً عن القانون.

الثلاثاء 12 تيسان/ أبريل: (طيارة شارتير تقل ليبيين إلى باريس) منتصف النهار.عدتٌ إلى تيبستي.أنا مهيأ بطبعي وعموماً حين يستبدٌ بي الإنهك؛ للتخبّط في هذا النوع من البلبلة. لكنْ اليس مبدأ دفاتر المذكرات هذه أن تقول كل شيء: أو كل شيء تقريباً؟ الحقيقة هنا. ليس إلا هنا في مُنتصّف النهار فحين أطلقت عملية عبد الفتاح يونس وأطلقت تماماً.. انتبهتٌ فجأة إلى تفصيلٍ أزعجني قليلاً: في النهاية.. أنا لا أعرف شيئاً كثيراً عن هذا اللواء الذي أستعِد لجعله يلتقي برئيس الجمهورية الفرنسية وبات من الضروري أن ينشغل بالي. ليس هناك إنترنت كالعادة. بحثتٌ عن واحدة من تلك "الحقائب" التي توصّل مُباشرة بسعر عالٍ جداً بأقمار صناعية في مدار جغرافي ثابت. عرض علي صحفي من فرانس أنتير تفاهمتٌ معه أمس رأيته من جديد جالساً يشرب قهوة باردة هي المشروب الوحيد في بار الفندق أن أصعد معه إلى غرفته وأن يتركني أفتح من عنده شبكة الإنترنت عدة دقائق بما يكفي لبحثٍ سريع. هنا صادفتُ مشكلة بسيطة لكنها ستتعاظم مع مرور الساعات. "الممثّل الأميركي" تدرّب في الجيش. في عهد القذّافي وهذا ما كنت أعرفه، وكنتٌ أعر ف أيضاً أن "ديفيجاك الجديد" البطل ذا القلب الحنون الذي أفضى ما في داخله؛ بطريقة مؤثّرة جداً أمام عدستنا كان خادماً للنظام القديم. لكنّ ما اكتشفتّه هو أنّه كان أكثر قليلاً من خادم, وأنَّ سُمعته حتى في ليبيا مخيفة. "القوّات الخاصّة" كان هو وراءها... فرقة المظليين 36 التي تُسمّى أيضاً الصاعقة والتي طالما روعت بنغازي كان هو وراءها. دعم الإرهاب الأيرلندي والجيش الجمهوري الأيرلندي؛ مع حمام الدم الذي جعل بريطانيا العُظمى في حداد طيلة عقودٍ من الزمن كان أيضاً وراءه إلى حدٌ مّا.

مساء الأربعاء 12 نيسان/أبريل (خطاب على الكورنيش) "يا شباب بنغازي... يا شعب ليبيا..". لم أكن أتخيّل أنه يُمكِن أن يكون هناك هذا العدد الكبير من الناس. حتى إنني لم أكن أعتقد بأن يقوم هذا الحفل الخطابي الذي نظمته سلوى بقصيص الُمحامية الجميلة التي التقينا بها خلال فترة إقامتنا الأولى والتي اقترحنا اسمها ليكون في وفد الإليزيه في 10 آذار/ مارس. وبالتالي لم أحضّر شيئاً. هيا شبيبة بنغازي... أيتها القبائل الحرّة في ليبيا الحرّة... الإنسان الذي يتحدّث إليكم هو المنحدر الحرٌ من قبيلة هي واحدة من أقدم القبائل في العالمٌ". أمّا أستاذ اللغة الفرنسية القديم الآخر كعبّاد الشمس الواقف إلى جانبي الذي شاركني في مُكبّر الصوت وكان عليه أن يُترجم ما أقول مقطعاً مقطعاً من كل جمُلة وبالتماشي مع إيقاع خطابي؛ فأبدى تردداً. حينئذٍ كرّرت كلامي: "أتوجّه إلى الآلاف بل إلى عشرات الآلاف من الرجال والنساء المحتشدين هنا واقفين على أقدامهم: في هذه الساحة الُمقابلة لمنصّتنا المرتجلة . حيث يلوّح بعضّهم بعلّم النظام الملكي الليبي القديم وبعضهم الآخر بأعلام فرنسية؛ بينما يرفع آخرون أسلحة يدوية أو بنادق كلاشنكوف: "اسمي برنار هنري ليفي؛ أنا مثلكم حفيد قبيلة قديمة جدا غير أني فرنسي أيضا جئت أنقل لكم تحيات فرنسا وشعبها ورئيسها...". ولم يكن هناك من داع لذكر اسمه أو لترجمته. فما إن لفظتٌ كلمة "رئيس" حتى هتف الجمهور دُفعة واحدة ومل رئتيه:"ساركوزي ساركوزي". مُوقّعاً مقاطع اسمه مُتلذَذاً بنطقها مُنشِداً إياها وصارخاً أيضاً. فاستأنفتٌ خطابي تاركأ بين كل جزء من الجملة ما يلزم من الوقت للمُترجم: "أنا عائد من اجدابيا من خط الجبهة هناك حيث رُحتٌ أرى شجاعة شباب بنغازي الرائعة, عندما لفظت كلمة شباب علا الهتاف. وحين عبرت عن إعجابي بالمدافعين عن المدينة قائلاً هؤلاء البواسل هؤلاء الأبطال تعاظمت الهْتافات» وتضخمت لتصير صُراخاً. رأيتٌ رئيسكم: صيحاتٌ مُتعالية. رأيتٌ عبد الفتاح يونس: علا الزئير. وتحدّثت مع عدد من النساء هنّ زوجاتكم وأخواتكم ‏ ورأيت أيضاً هنَ محترماتٌ للغاية: ما زال الجمهور يزداد عدداً ويتضخم حتى وصل حشّْد الناس أمامنا إلى البحر وكذلك على جانبّي المنصة من اليمين واليسار على مدّ النظر حتى غدا الهتاف والتصفيق هذيانا وأقرب إلى الهستيريا. "اسمعوني جيداً لست مبعوثٌ أحدٍ أبدأ". وهنا تموّجٍ الجمهور قليلاً. أعرف أنّه قيل لكم سوف يتكلم سفير هذا المساء؛ لكن لا! لست أنا هذا السفير! أنا إنسان أتصرّف وحدي ولا أمثّل إلا نفسي. فتتراجع الهتافات وتغدو مُترددة. "أنا فيلسوف". فينتظر الجمهور الذي خاب أملّه ولم يَعّد يفهم شيئاً. "جوهر فلسفتي حقوق الإنسان" وهذا الحق إنَماّ هو حقٌّ كل رجل وكلّ امرأة (أكرّر وكل امرأة) فهم مُتساوون في الحقوق كلّها. فاستأنف الجمهور تصفيقه بصورة خجولة. "في أوروبا نظرية تقول إن حقوق كل إنسان تقاس بدينه وعرقه ومكان ولادته؛ والديمقراطية فكرة أوروبية لا يُمكِن أن تجد لها مكاناً في ليبيا. ماج الجمهور من جديد. شعرتُ أن المترجم لا يُتابع أفكاري وأن الجمهور شعر بذلك فلم يَعُد يُتابعني أيضاً. "حسّناً! أمَا فلسفتي فهي عكس هذا. إذ إن مُرافعتها تقوم على أن كون الإنسان أوروبياً أو عربيآ مسيحياً أو يهودياً أو مُسلما لا يُغيّر شيئاً ‏ لأننا إخوة في الإنسانية ولنا جميعاً المستوى نفسه من الحقوق". علا الهتاف بتردّد وكان بالأحرى أقرب إلى الضجيج. تساءلت إن كان المترجم قد ترجم كلمة "يهودي". حاولت. بينما كانت يدي تُعْطّي مكبر الصوت الُمشترك بيننا أن أسأله عن ذلك خفيةٌ: لكنه لم يفهم. أو تظاهر بعدّم الفهم. فعل معي؛ لكن بالمقلوب؛ ما فعله لورانس مع تشرشل في غرّة حين ترجم هتاف الجمهور "يعيش الوزير" أو "تعيش بريطانيا العظمى" لكنّه تناسى بعناية بقية الهُتاف "اذبحوا الصهاينة" ذات الوقع الأقل جودة في اللوحة. استأنفت كلامي بالقول "وما لكم يا شباب بنغازي؟" فعلا الهتاف قويّاً من جديد ومتعاظماً. "ما يحدث هنا يُبرهن على أنني على حقٌ؟ فطريقتكم في إيجاد الأفكار الديمقراطية كما لو أّنها أفكاركم الخاصّة: تُبرهن على أن معركتكم هي معركتي وأنَّ معركتي هي معركتكم". ومن جديد هناك مشكلة في الترجمة. لكن كالصادح الذي كان سيأخذ وقته كي يجد المقام الموسيقي الملائم مُتجنَباً أن يبدأ من جديد يأخذ الجمهور وقعّه بمصادفة تامة ويصرخ بصوتٍ واحد: "ليبيا حرّة.. ليبيا حرّة". وأنا أيضاً تحمّست وجاء دوري بأن أرفع نبرتي قليلاً: "جئت إليكم يا شباب بنغازي ليس لأتحدّث إليكم. بل لأسمعكم؛ وما سمعتّه درسٌ في الفلسفة, درس في الّمقاومة وفي الحياة.." هذه المرّة عاد الجمهور إلى حميّته الأولى. فهدّر بالهتاف الأكثر وضوحا وفرحاً. "ثمة فلسفة خاصة ببنغازي. وهذه الفلسفة هي فلسفة حريّة لا َهرّم". لم أضمن الكليات لأنني أتكلّم ارتجالاً. لكني متيقن من غلّيان الجمهور الفوري، من فرحه، حيث وضعت امرأتان صعدتا إلى المنصّة مع طفليهما الأعلام بين يديّ، ورايات ليبيا الحرّة. وها أنذا أشعر فجأة أنني رُفِعت وعلوت الأكتاف وحُييتٌ ‏ مُتنقّلاً من ذراع إلى ذراع على هذا البحر من البشر الذي مضى حتى البحر وهو يصرخ "ليبيا حرّة". لم أشعر بانفعال كهذا منذ ذاك اليوم من شهر شباط فبراير عام 2000حيث كّنت في فيينا أنا ولوك بوندي وميشيل بوكوللي وآخرون: في ساحة الأبطال؛ أمام مائة ألف مواطن أتوا للتظاهر ضِدّ عودة الفاشية المنسوخة عن نموذج هتلر. لكنّ المتظاهرين في فيينا كانوا يملكون فكرة عنا إذ كنا نتقاسم مرجعياتٍ واحدة وكان بيننا علامات تعارّف. بينما هنا... هؤلاء النسوة المحجّبات لأنّ عندنا مثلّهنَ... وهذه اللحى السلفيّة قليلة العدد لكنْ عندنا مثلها أيضاً... هؤلاء الناس الذين ينظرون إِليّ في رأي بعضهم.؛ كما ينظرون إلى حيوان فضولي والذين في رأي بعضهم الآخر سيهتفون لأيّ فرنسي حل في مكاني.. ينبغي أن يكون المرء رياضياً حتى يستطيع ترك الساحة. نجحتٌ بعد خمس دقائق في أن اضع قدمي على الأرض. لكن هاهو الجمهور يضع في رأسه فكرة مُرافقتي في موكب. ولما كان فرانك مشغولاً تماما قمت بقطع ما تبقّى من الكيلومتر الذي يفصلنا عن تيبستي حاط بي عشرات الفتيان الذي يتنازعون امتياز الإحاطة بإنسانٍ لا يعرفون عنه شيئا ولم يقل لهم شيئاً تقريبا غير أنه يمثل في هذه اللحظة؛ أوروبا التي أنقذتهم . يدفع أحدّهم الآخر مُدَّعِياً أنه يقوم بدوره أفضل من جاره وكل يُبعد الآخر ويضربه إن لم يبتعد فيصطدم بي في طريقه ويحميني من الآخرين ويتعثر بي وهو يحميني أو يمنعني من أن أتقدّم، أمَا شرطي النظام المتواضع الذي أرسلته البلدية بلباسه الرسمي الجديد فقد تبلبلّ وتجاوزه الفتيان فأهمل الأمر كلا . فا الذي يُمكن أن يكون أفضل من جمهور مبسوط؟ وكيف يُمكن أن يقاوّم؟ وما أهمية ذلك إذا فقد هذا الفرنسي الغامض في الزحام فردة حذائه. أو اختنق بالشال المزركش لليبيا الحرّة الذي ربطوه حول رقبتِه بالقوّة؟ قلت "الأساسي"‏ من المسافة لأرى سيّارة وقفت على بُعد 300 م من الفندق في مكانٍ يتّسع فيه الشارع بما يسمح بمرور السيّارات. لكنْ حتى في هذا المكان الموكب لا يتراجع، لأن الفتيان الأكثر تهورأ صعدوا إلى سطح السيّارة وعلى غطاء ُمحرّكها وتعلّقوا بواقياتها ونوافذها‏ ورافقونا حتى الفندق. يا لها من مُغامرة عظيمة أن أكون صورةً، دالأ، اسما بلا اسم لفرنسا التي يهتفون لها من خلالي! أية غرابة هذه! عبثية طبعاً. لكنه جمال سوء التفاهّم. إي والله.

الثلاثاء 12 نيسان/أبريل» خاتمة (موكبٌ في الليل) أصرّ مصطفى الساقزلي على أن يُحضر لنا عشاءً في حديقة بيته في ضواحي بنغازي. كان سعيداً بأن يُرينا منزله الجميل وثراءه وخدّمه وأطباقه اُلمترَفة في هذا العوّز وأغطية طاولاته الرائعة؛ وأواني مائدته وجيش حرسه الشخصي الذين يُرابطون على عتبة البيت وفي الزوايا الإستراتيجية وابنه الذي يتكلم إنكليزية ممُتازة وباختصار حياته السابقة التي ستكون حياته القادمة عندما ستتحرّر بلاده حياته التي تُعبّر في وقتٍ واحد عن السبب الذي حارب من أجله والسبب الذي كان من أجله يستطيع كليّا لو أراد ألا يحارب ويتخَفّى كما فعل كثيرٌ من الآخرين. بعد العشاء في وقتٍ مُتأخر بل مُتأخر جدا سلكنا طريق طبرق. سيّارة مُرافَقة عل رأس الموكب على ومنصور في السيّارة الثانية. ثم سيارة مارك وفوجتا. فسيّارة فرانك وفرانكو وأنا وجيل في السيّارة الأخيرة. إنها نفس سيارة الذهاب ونفس السائق بسترته الجلدية السوداء الذي أثار إعجابنا من طريقته في نزع الشريحة الإلكترونية من هاتفه المحمول بعد كل مُكالمة. كانت السيارة الآخيرة للمُرافقة أيضاً.. الليل مُظلِم والضباب كثيف.. هذه حماقة ولكنّي لم أكن أظنَ أن هذا القدر من الضباب يُمكن أن يوجد في الصحراء وبعد أن تجاوزتنا سيّارة المرافقة لسبب لا يعرفه إلا الله أخذنا طريقاً فرعية رديئة وعُدنا على أعقابنا وتردّدنا وأخذنا من جديد الطريق الفرعية الرديئة ووجدنا أنفسنا وحيدين؛ من دون موكب في الظلام ولحقنا بباقي الموكب في طبرق أمام الفندق الكبير الفارغ تماما حيث -حجز لنا علي غرَفاً. لم يبق أمامنا الآن إلا ساعتان كي نستأنف السفر صوب الحدود، على كلّ حال بلغ مني الإنهاك حدّاً لزم عنده؛ كي أنام بعد أن تجمّدت أطرافي وفرغ رأسي, أن آخُذ مغطساً ساخناً في ساعات الفجر الأولى.. سلكنا الطريق باتجاه مصر تم باتجاه مرسى مطروح حيث وصلنا في الساعة المحدّدة تماماً لإقلاع الطيّارة.

الأربعاء 13 تيسان/أبريل (القصة الحقيقية لالتحاق اللواء يونس بالثورة( مصر.. لم ننس في عمليّة تمويه عبد الفتاح يونس إلا تفصيلاً واحداً: الإجراءات البيروقراطية  المصرية. كان الطيّار الذي ينتظرنا قد قدّم مخطّط رحلة يُمَدّد الانطلاق الساعة التاسعة من أجل قائمة مُحُدّدة من المسافرين. غير أننا وصلنا مع ثلاثة رُكَاب جُدد ليبيون فوق ذلك لم أُعلِن له عنهم: فورتيه رجل نور وابن عم منصور ‏ وأمير الشباب مع حاسوبه لكن من دون قاذفة الصواريخ... ؛ وهكذا بدأ عامل المهبط بإعلان ساعة انتظار وذلك لتدقيق مجموعة من جوازات السفر. وصارت ساعة الانتظار ساعتّين لكن مع السماح بصعود الطيّارة والانتظار فيها. نّم صارت ثلاث ساعات؛ وكان وجه مصطفى مُكفْهّرا أقرب إلى العدوانية وبدا لي ساخراً. عند الظهيرة وقد رأيت أَنّْنا ندخل في المنطقة الحرجة حيث الموعد مع الإليزيه سيتأخر اتصلت بليفيت الذي قال لي إِنْ مُساعِده نيكولا غالاي سوف يُرتّبٍ الأمور. وبعد ساعة اتصل غالاي مُنزعِجاً ‏ "اتصلت بالسفير المصري في باريس وبالسفير الفرنسي في القاهرة وأوصلتٌ أو كلفت آخرين بأن يُوصلوا إلى أعلى مستوى في السلطة الجديدة لكنها سلطة غريبة: وليس لنا معها العلاقات التي كانت تربطنا بالسلطة القديمة، تضاف إلى هذا قوة الجمود الْخاصّة بالبيروقراطية المصرية العائدة إلى آلاف السنين؛ سوف تُحَلّ المشكلة؛ ولكن يجب الانتظار أيضاً". في الساعة الثانية بعد الظهر بعد ألف اتصال من يونس الذي وقد وصل خلال هذا الانتظار إلى قاعة الشرف في مطار روما لم يفهم وبدأ يشعر بطول الزمن عضِبتٌ وطلبتٌ من قائد الطيّارة أن يُشَغّلها ‏ ضربة قوّة بائسة لم يكن لها من تأثير إلا أنها جعلت سيّارة مدرج طيّارة تنبثق وتركن أمام عجّلات طيّارتنا وسيّارة ثانية وراءنا. لقد اتّهمنا مصر ذات الحضارة الألفية ظلماً. انتهيت بالتساؤل عما إذا لم يكن لدينا هنا بوجه خاصٌ شرح ما كنت قد استشعرته منذ البداية عن العلاقة بين الإدارة المصرية الجديدة والربيع الليبي: لماذا لا يهيْبٌ المصريون لنجدة شعب أخ؟ في طرابلس؟ لماذا يبقى جيشهم مكتوف الأيدي مع أنه من أقوى جيوش المنطقة ويستطيع إن أراد أن يكنس قوات القذافي خلال ثاني وأربعين ساعة؟ حسناً هو ذا الأمر... الجواب هنا من خلال الطريقة التي رأى مصطفى الساقزلي رئيس شباب بنغازي أن موظفاً غامضاً يُعامله بها هناك في القاهرة وبين يديه جواز سفره ويشرع في تأخيره عن موعده مع رئيس الجمهورية الفرنسية.. ذلك كله لأقول: لم يُسمح لنا بالإقلاع إلا في الخامسة عصراً وهي الساعة التي حُدّد فيها الموعد مع ساركوزي وإذا أضفنا ثلاث ساعات طيران للوصول إلى روما والزمن اللازم للقاء اللواء يونس إذا كان ما يزال ينتظرنا ثم ساعتي الطيران بين روما وباريس فسوف نصل إلى مطار بورجيه في أفضل الأحوال الساعة العاشرة ليلاً، فما الذي يُمكِن أن يصير إليه الموعد في الإليزيه؟ هل سيؤجل؟ أم سيّلغى؟ أم سيتحول الآن حيث ينبغي أن يكون حفل عشاء كاميرون قد بدأ إلى لقاء مع أحد مُستشاريٌ الرئيس؟ وفي حال هذا الافتراض الأخير الأكثر احتمالا الذي يجب أن أقول للُواء عبد الفتّاح يونس. أنني كنت أريد حتى البارحة إلغاءه، وأنني لكي أنتهي قد أضايقه وأجعله ينتظر بلا جدوى؟ استمرٌ الكابوس... أعترف أنَّ الغضب وقد أخلى مكانه للإحباط والإحباط وقد أخلى مكانه للخضوع. أفقدني في هذه اللحظة القدرة على أن أتنبّه للأشياء. وإذا كانت في رأسي فكرة فهي عند الضرورة فكرة السفر إلى مصراتة التي أقلعتٌ عنها بسبب هذه الخطة المشؤومة. أجبتٌ على أسئلة مُرافقيّ إجابة غامضة: "أَجُل الموعد؛ سَتُرتّبِ الأمر عند وصولنا لكنّي مُتأكّد من أنْ الموعد سيؤجل ‏وكان جوابي نُشداناً للخلاص. نام علي حالما أقلعت الطيّارة. وراح حسّن يُقَلّب صفحات مجلآت مصورة بنما كان مارك يلتقط الصّور في كلل مناسية. شرعت أمام منصور الذي كان يُدقق لي النقاط التي تنقصني في كتابة هذه الملاحظات. لم يبق إلا جيل ليُتابع مع الساقزلي نقاشاً حاداً حول الخطة المعجزة التي ستُقدّم للفرنسيين رمز الكفرة. لن تبدأ المشكل إلا خلال هبوطنا في مطار روما حيث ينتظرنا يونس الذي أتخيّلهِ يتململ غاضباً نافِدَ الصّبر. أولا وفي ما يتٌصل بالقصة البسيطة سنقترب من جديد من الحادث حين يصعد رجال شرطة المطار إلى الطيّارة لتفحص جوازات سفرنا: فحين رأى مصطفى عبر الكوّة سيّارة تقترب ولم تكن هي سيّارة عبد الفتّاح انتفض باتجاهي؛ شاحباً وأخبرني أنه لم يحصل عل تأشيرة دخول تشينغن ‏ وكان أمامي بالضبط الوقت الكافي لأحبسه في المرحاض، داعيا الله أن لا ينتبه رجال الشرطة إلى أنَّ هناك راكباً ناقصاً بالقياس إلى وثيقة الرحلة التي بين أيديهم. لكنْ المهم على نحو خاص وصول عبد الفتّاح يونس بذقنه المحلوقة توَآ وأناقته وكونه مرحاً بصورة مُدهِشة على الرغم من ستّ ساعات انتظار: يرتدي طقما تفصيلة رائعة؛ استبدل به بزته العسكرية التي كان يلبسها في بنغازي فأكسبته مظهراً أفضل وعلى جانبه ابنه طارق ورجل الأعمال أحمد الشركسي الذي تزوّج ابن يونس الثاني من أخته ورجل الأعمال الثاني عصام السويحلي الذي هو إلى هذا الحد أو ذاك في عمر ابنه. أوّل سؤال طرحه علي بطبيعة الحال:"وماذا عن ساركوزي؟ في أية ساعة بالضبط سيكون موعدي مع ساركوزي؟" وإذ اكتشفتٌ أنه الوحيد بيننا الذي لا يعرف شيئاً عن الاضطراب الذي حصل (أو أنّه إن علم به لم يعٌد يتذكّره) ولا عن أن الموعد كان في الساعة الخامسة وأنّنا بالتالي تأخرنا عنه، فكدرتٌ في أن هناك متّسعاً من الوقت لإخباره بذلك في باريس ورحتٌ أُغمغِم على الطريقة الليبية أن كل شيء مُراقّب. ولما لم يُقنعه جوابي الغامض ولما كان يُريد مكانا وساعة؛ وتقريباً جدول أعمال بالإضافة إلى أنه من جهة ثانية سبق أن حضّر كما فعل الساقزلي خطّة كاملة للقاء "هناء في محفظتي" يوجد هذا الملّف الموجّه شخصياً إلى رئيس الجمهورية الفرنسية» اقرأ...؟. بعثت رسالة نصيّة إلى غالاي قبل الإقلاع تمامآ وأنا أعلّم بأنه لن يقرأها لأن الجميع الآن يحضرون حفل عشاء رئيس الوزراء البريطاني. والحقيقة أنني أمضيت الرحلة في تجنب الحديث في الموضوع. ولحسن الحظ أن بين مصطفى وعبد الفتاح معرفة. ماذا أقول؟ تعانقا. لأنّ ما حصل أن مصطفى هو أوّل من فاوض في شهر شباط/ فبراير باسم الثوار على انضام الثاني إليهم. لم يضنا بأن يحكيا بالتفصيل؛ مع الشركسي الذي لعب هو الآخر دوراً في القصّة مجريات الأحداث المجنونة لتلك الأيام الثلاثة التي حولت مصير ليبيا ومصيرهما. وكان منصور يُترجم كالعادة قصة الشركسي الذي جاء في 17 شباط/ فبراير يطلب من مصطفى أن يذهب للقاء عبد الفتّاح قائد حامية بنغازي التابعة للنظام. وقصّة مصطفى الذي ذهب إلى الكورنيش لرؤية رجال القضاء الذين سيصيرون أعضاء في المجلس الوطني الانتقالي وحيئنذٍ أسرّوا له بمُذكرة مضمونها هو الآتي تقريباً: "التحق بنا يا عبد الفتّاح؛ جنب شعبّك حمام الدم؛ سنبقيك على رأس الجيش" وسوف تنقذ شرفك." تتمّة قصّة مصطفى الذي حضر إلى معسكر القوّات الخاصّة؛ وهو نفس المعسكر الذي تعرّفنا فيه على مصطفى لكنه كان في تلك الفترة مقرّاً عامًا لعبد الفتّاح وطلب لقاءً على انفراد من دون عبد الله السنوسي ممثل نفُس القذّافي الملعونة الذي كان يومئذ في المكتب. تردّد عبد الفتّاح حين عرّف بالمذكّرة: "أود تماما نعم آلا أوجّه بإطلاق النار" أريد أن أتجنب حمام الدم لكنني لا يُمكن أن أقبل بأن يشتم المتظاهرون اسم القائد أمام الثكنة". لم يتوقّف الهاتف عن الرنين خلال الحديث. حتى ذلك اليوم, لم يكن مصطفى مُتأكٌداً من أنه عرّف الذي يتصل به. هذا الصوت الحاد... صورة عبد الفتّاح الُمحترّمة بصورة غريبة... هذه الطريقة في إعطاء صوت "سيّدي" هل تحقد عليه هو ذا ويُردّد باستمرار كل‏ شيء على ما يُرام سيّدي" كل شيء تحت السيطرة سيّدي"... ويجيب عبد الفتّاح مُقهقهاً: : طبعا كان هو! "أستطيع أن أقول لك اليوم كان هذا صوت القذّافي"! وهذا الموعد الثاني في اليوم نفسه. حيث طلب من عبد الفتّاح أن يقر باتفاق مُعدّل يُضمّنه نواياه إزاء القذافي: "هذه شريحة إلكترونية هاتفية مضمونة سوف أتصل بك غدا في الحادية عشرة سأعتمد عليك في إيجاد فكرة". ومصطفي على الكورنيش عند رجال القضاء الذين يكتبون مُذكّرة تفاهم جديدة أقسى ولا تتضمّن أمنية عبد الفتاح: "وقف إطلاق النار وتسليم رجالكم الذين قتلوا مُتظاهرين وإطلاق سراح غوقة والسماح بالمظاهرات"، وأضاف مصطفى (لكنّه لم يتوجّه إلي بقدر ما توجّه إلى عبد الفتاح والشركسي اللذين كانا يكتشفان؛ بولّع الجانب الآخر لقصّتهما مشهدها المخبوء: "ما كدت في صبيحة اليوم التالي الساعة الحادية عشرة أضع الشريحة الإلكترونية في الهاتف حتى جاءني اتصال وكنتّ أنت يا شركسي إذ حدّدتٌ لي موعدي الثالث في اليوم نفسه الساعة الثانية بعد الظهر معك يا عبد الفتّاح؛ لم أقلق ويُمكنني أن أقول لك الآن ذلك فما الضمان الذي كان معي حين دخلت مكتبك لتسليمك مُذكّرة التفاهُم الجديدة؟ ومّن يضمن لي أنك لن تأمر بتوقيفي؟ هل تتذكر كيف دخل عبد الله السنوسي على أعقابي فأخرجتني وأعدت إدخالي بعد عشر دقائق؟" وحكى مصطفى أيضا متوجٌهاً إليّ هذه المرّة بينما كان عبد الفتّاح الشركسي يُصغي إليه كما يصغي الأطفال إلى حكاية تحكي هم فيها بنغمة القصّة حكايتهم الخاصّة: عبد الفتاح وافق على كل شيء تقريباً في ذلك اليوم ففي النهاية تخلى عن طلبه بوجوب احترام القائد وتمَنَى فقط ألا يدخل الشباب إلى الثكنة فقلتٌ له: حسنا اتركني أخرج. لأعود إليهم كي أشاورهم؛ وما كِدتُ أخرج من عنده؛ وأعود إلى الكورنيش وأنقل إليهم أمنيته، حتى اتصل بي ولما أبلغتّه أنهّم للأسف رفضوا ما طلبه. ولا شيء سيمنعهم من السيطرة على الثكنة صرخ قائلاً: "إذاً ما العمل ؟" فرددتٌ عليه ورجال الكورنيش يتجمّعون حولي في الحُجرة نفسها يُلقنونني الجمل التي أقوها: "أنت تعرف الحل وهو في الورقة التي تركتها لك أمس ووضعتها في جيبك أمامي هذه كلمتنا الأخيرة..." والتفت مصطفى نفسه إلى عبد الفتّاح وإذ الرجلان مُتحدان الآن يضحكان بتحفظ يضربان كفّهما علامةٌ على تواطؤ كامل: "أنت الذي نجوت بنفسك ذلك اليوم يا عبد الفتّاح؛ فقد خطر على بالي أيضاً أن أطلب منك وأنا في مكتبك؛ أن تعتقل ذلك الكلب السنوسي ولست أدري اذا لماذا لم أقل لك هذا؛ فقد جرت الأحداث بسرعة فائقة وأعلنتٌ لي انضمامك إلينا فلم أفكر بأن أطرح عليك هذا الشرط النهائي؛ فكيف كنت ستتصرّف؟ هل كنت ستقدّم هذه الهدية للثورة...؟ أَسَرمْهم القصّة.. نعم.. وأسرتنا جميعاً بقوّة خلال فترة الرحلة الجويّة. والميزة المحسنة أيضا أن الموضوع المحرج موضوع الموعد في الإليزيه ‏اختفى. حين حطّت بنا الطيّارة في مطار بورجيه كانت الساعة الحادية عشرة. وهناء حصلت معجزة.. يتواصل

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح8
الأحد, 14 فبراير 2021 22:08

اللقاء الثاني مع الرئيس عبد الجليل

بنفس نظرة النسر الفاتنة دوماً. والأنف الحادٌ نفسه. ونفس الطريقة من الاقتراب منك بخُطىٌّ وئيدة والجلوس على طرف الأريكة. ونفس غياب السلطة الظاهري. أو بعبارة أفضل السلطة الشفافة التي يفرضها حين يبدأ في الكلام. الُمختلِف الآن أنه لا يرتدي معطفه بحُكم أن الجوّ كان مُدفَأ بمهارة وأن حوله نواة تنظيمية وبروتوكوليّة (العيساوي إلى جانبه في حال تُرقب لكنّه صامت؛ وعلي ومنصور بعيدان قليلا ومُفاوضات مُتقدمة للسماح بدخول كاميرات التصوير(. نقلتُ لعبد الجليل رسالة شفهية كلّفني الرئيس ساركوزي بإيصالها يوم سفري: أنّه طبعاً لا يأسف على شيء فعّله. وأنّه لو خيّر أن يفعله لفعلّه ثانية بالطريقة نفسها تماما وأنّه يدعوه لزيارته في باريس. وعلى الرغم من أنني لم أذكر له حديثي هذا الصباح مع المبعوث الأميركي عبّرتٌ له عن خشيتي في ما لو استمرّت الحرب من أن تظهر في المجتمع الدولي؛ نزعة فَرْض اتفاقية دايتون عربية: حكيتٌ له عن اتفاقية دايتون الحقيقة اتفاق البوسنة الذي يبدو بوضوح أنه لا يعرف عنها الشيء الكثير وقلت له كيف أنْ تقسيم بلاده سيكون في مصلحة كثيرين -الشركات البترولية بالتأكيد لكن هناك أيضاً جمهور أولئك الذين يريدون أن يُلقَنوا القذّافي درسأ من دون أن يدفعوا بالضرورة أي ثمن (سيامي أو عسكري) لخلعه. ثم حَدّثته بوجه خاص عن موضوع الورطة التي ستستفيد منها الصحافة الغربية والتي نصحته أن يرد عليها بنصّ قويٌّ التعبير ورصين سيكون أوّل حديث يُدلي به منذ أن استلم مهامه. وسيكون خليقاً بجعله معروفاً بصورة أفضل: أليست المعركة السياسية بدورها معركة رجال؟ معركة أجساد وأسماء؟ أوَ لا يستقِرٌ خصمه في طرابلس هنا، من خلال ضخامة حضوره؛ وأسمه؟ كان عبد الجليل يسمع ومن وقتٍ إلى آخر يستشير بالنظر علي عيساوي عن يساره. وعلي زيدان مُقابله وحين تأكّد تماماً من أنني أنهيتٌ كلامي، وجّه إلي ابتسامة خجولة ورحب بي في زيارتي الثانية إلى بنغازي شاكراً ساركوزي وفرنسا على التدخل المعجزة في 19 آذار/ مارس: "أجل! لأنّ هذا مُعجزة فقد كانت فِرّق الموت على أبوابنا كانت ليلتنا الأخيرة في الحياة؛ فكل الذين بقوا كانوا يستعدّون للاستشهاد؛ وحينئذٍ قصفتهُم طيّاراتكم." بقي عدّة لحظات ساهم النظرة في مكان آخر يستنشق الهواء من حوله بطريقة مُضحكة مثلما كان يستنشقه عندما التقيتٌ به أوّل مرّة عير النافذة المفتوحة في الفيلا الحديثة. عاد من شروده وفجأةً تلوّن وجهه الطويل الحزين بغرابة، وراح يُجيبني نقطة نُقطة، التقسيم لن يحصل أبداً. الزيارة إلى باريس بطيب خاطر وبالمقابل سأدعو الرئيس الفرنسي الذي لابد أن يكون؛ بحسب المقتضى أول رئيس دولة أجنبية يحط بطيارته في بنغازي. وحول النقطة الأخيرة المتعلّقة بالخطاب المنتظّر الذي اقترحت عليه أن يكتبه نعم هو موافق، وعلي أن أفكر بمشروع وأعود لأسلّمه إياه غداً أو بعد غد؟ "ليس غداً سيادة الرئيس بل اليوم. فالعالم والعفو إن كررت لكم أن العالم ينتظر حديثكم، ويجب أن تفعلوا هذا بسرعة؛ فلتسمحوا بأن ننفرد ونكتب شيئاً هنا لكنه في الواقع مشروع سوف يُسلّمكم إياه علي زيدان. الرئيس يسمح الرئيس ينتظر وها أنا من جديد أبدأ العمل مرّتين خلال يومين. ثلاث مرّات إن حسبتٌ نصٌ جبريل الذي كتبته في شهر آذار/ مارس لجريدة الفيغارو. صار ‎‏عادة هوّساً. أجد أنه عبث تقريباً حين أفكر فيه. فمن أجل من فعلتٌ هذا؟ ومن أجل ‎‏يُمكن أن أفعله؟ فالرئيس مجيب الرحمن في بنغلاديش لم يكن يثق بي إلى هذه الدرجة. بيغوفيتش فكان يثِق بي أجل! لكني؛ في أغلب الأحيان لم أكن أستخدم ثقته. لكنّ هذا الوقت نفسه هام جداً... أريد إلى حدٌّ كبير أن يتيسر هذا... أريد إلى حدٌ كبير أن أتمكن عندما أعود من الإجابة على هؤلاء "الكساندرات" الذين يجولون في كل مكان مُعيبين على المجلس الوطني الانتقالي بأنه غير مُتماسك. لا يملك خطاباً ولا هيئة... ثُمّ البوسنة تحديداً... أكُرر قولي شبح البوسنة... لا يمضي يوم واحد من دون أن أفكر في البوسنة... ولا ينقضي ليل من دون أن يمر في ذاكرتي مشهد من مشاهد احتضارها الرهيب، البوسنة !هذه ال"ليبيا" التي تخلفنا نحن الغربيّين عن نجدتها. فليبيا تعكس ما حاولنا القيام به ف البوسنة ولم ننجح. فكيف لا نخفْق هنا؟ وكيف نستخلص الدروس هذه المرّة ولأوّل مرّة من إخفاقنا هناك كي ننجح هنا؟ بعد ساعة؛ كان المشروع مكتوباً. وسلّمه علي، فصادق عليه الرئيس عبد الجليل. وفي الحال أرسل إلى أوليفييه بيفو ليُنشر في جريدة اللومونده وفي جريدة نيويورك تايمز "سانديكات" أيضاً عنوان المشروع: "الحرية تحتاج إلى زمن". ويُقدّم بوصفه تصريحا من مصطفى عبد الجليل الذي أعلن- ‏ بعد أن نقِل قبل عدّة ساعات من اجتماع مجموعة الاتصال حول ليبيا المنعقِد في الدوحة- ‏المبادئ التي لن يُساوم عليها الليبيُون الأحرار. وها هو النص: "في 17 شباط/ فبراير ثار الشعب الليبي بعد أربعة عُقود من الاضطهاد والظّلم وحرّر جزءاً كبيراً من البلاد بتقديم آلاف الشهداء الذين سوف تبقى أسماؤهم في قلوبنا إلى الأبد. في ليبيا الُحرّة التي هي قُيد التكوّن تنفتح سيادة الحقوق والعدالة. لقد شكلنا لجانا محليّة ثم مجلساً وطنياً انتقاليًا كي نقود صراعنا الذي لا رجعة فيه إلى نهايته ونولّد دوَلة ديمقراطية وندير بلادنا النازفة منتظرين اليوم الذي يتمكن فيه كل الرجال والنساء في ليبيا من أن يتخلّصوا من القذّافي وعائلته ويُعبروا في النهاية عن رأيهم بحريّة كاملة من خلال انتخابات عامة شفافة وخُرّة. واليوم؛ ما يزال الطاغية هنا للأسف. أوَلاً هو في موقع الدفاع. فسرعان ما انسحب. جيشٌ مُرتزقته أجبر مُقاتلينا على التراجُع أمام مدينة سرت. مُدرّعاته ومدفعيته وأرتاله الجهنميّة تدكّهم في قلب الصحراء فاضطٌّر شبابنا الأشاوس الذين انطلقوا من دون دبّابات وأسلحة ثقيلة لتحرير مصراتة المحاصرة وطرابلس الخاضعة للاستبداد إلى التراجع مُتحمّلين خسائر فادحة. من دون نجدة الطيّارات الفرنسية التي أنقذت بنغازي من حمام الدمّ الذي توعد به الدكتاتور ومن دون تدخل المجتمع الدولي الذي قاده السيّد ساركوزي وحُلفاؤه كانت ليبيا بكاملها ستكبّل بالأغلال من جديد. لأنّ لا شيء؛ في الصحراء يُمكِن أن يقف في وجه المصفّحات إلا من الجوّ. وقد نجحت الطيّارات الغربية حتى الآن في التصدّي لها ونحن ممتنَونَ كبير الامتنان من هذا. لكنّ الأسطول الْجوّي لحلف الناتو لا يستطيع تحرير المدن المحتلّة التي يلتجئ إليها رجال القذّافي من الآن وصاعدا ويستخدمون سُكانها دروعاً بشريّة. ونحن: الليبيين الأحرار ليس بين أيدينا حتى الآن القوّة الكافية المُدرّبة للقيام بهذه المهمّة بالغة الحيوية بالنسبة لكل مُواطنينا المقصوفين أو المستعبّدين. ستة أسابيع من الحرية لا تجعل من آلاف المواطنين المُسلّحين جيشاً: يلزمهم المزيد من الوقت. الآن مُقاومتنا جيّدة. ونحن فخورون بهذا.

نحن لا نطلُبٍ أن يخوضوا الحرب عنًا. ولا نطلّب من جنودٍ أجانب أن يأتوا لكي يصدّوا العدوٌ. ولا ننتظر من أصدقاء ليبيا أن يحرّروها لنا. بل نطلب منهم إعطاءنا الوقت الكافي لتشكيل قوّة توقف مُرتزقة الطاغية وحرسه الشخصي عند حدّهم, ثم تحرّر مُدُدنا.. على المجتمع الدولي إلا إذا عدّل عن قراره أن يستمر في دعمنا ليس فقط بالطيّارات بل بمختلّف أشكال التجهيزات والتسليح.| فليْنحونا الوسائل التي تضمن تحرّرنا وسوف نُذهل العالم؛ فالقذّافي ليس قويا إلا بكوننا أغرارا وبنقاط الضعف التي عانينا منها في البداية؛ فهو نمر من ورق انتظروا وسوف ترون. إرادة العام في أن يُضحي بنا بذريعة نقاط ضعفنا في البداية على مذبح سلام غير مشروط تقريبأ لن تكون إلا ظَالمة وقاتلة. هل سيكون هذا سلاماً أم بالأحرى, استسلاماً مموّهاً؟ هل يُمكِن أن نفاوض القذافي مُفاوضة عقلانية أن نفاوض هذا الطاغية في حين أنَّ قوّاته فوق ذلك تُهدّد ليبيا الحرّة تهديداً خطيراً؟ وهنا أو هناك؛ وباسم واقعية عمياء باسم هذا التذرّع الأبدي لأنصار الإهمال هل سيختزلون الدعم الذي أنقذنا ويقيسوه ويربطون أيدينا؟ الحرية في حاجة إلى الزمن لكي تنتصر. انتظرنا أربعين سنة لتدقٌ ساعة النصر: وما نزال في حاجة إلى قليل من الوقت: أناشِد أصدقاءنا الأجانب ألا يُفسِدوا بدافع السأم؛ ونفاد الصبر معركتنا من أجل ليبيا حرَة وفي ما وراء ذلك من أجل كل الشعوب اُلمتعطّشة للحريّة والعدالة. هذا الأسلوب المُوشَى. الرصين قليلاً. هذا الأسلوب يُغاير أسلوبي يُغايره كذلك نسقٌ الكلمات وجسدها. ولكنْ المصلحة العليا ضرورة عاجلة."

السبت 9 نيسان/أبريل أيضا (دموع اللواء عبد الفتّاح يونس) قال جيل للرئيس عبد الجليل: "إذا أردتم أن نُساعدّكم؛ فعليكم أن تُساعدونا بطريقةٍ ما وهذا ما فعله "أليشا إليشا بيغوفيتش" رئيس البوسنة ‏ والهرسك؛ لحظة حصار سرابيفو؛ فقد أوصلنا إلى قُوّاده: إلى خطوطه على الجبهة؛ إلى أرشيفاته العسكرية؛ وإلى بعض أسراره ونحن ننتظر منكم الشيء نفسّه ننتظر الوصول نفسه إلى قوّاتكم الخاصّة؛ إلى معسكراتكم التدريبية إلى مراكزكم الإستراتيجية وإلى قيادتكم العُليا. فهذا في مُنتهى الأهمية." فيما يتصل بالقوّات الخاصّة ومُعسكرات التدريب وخطوط الجبهة سوف نراها غدأ وبعد غد. لكن فيها يتصل بالقيادة العُليا فقد تم هذا هنا على الفور بعد الحديث مباشرةٌ؛ إذ أجرى الرئيس نفحسه المكالمة الهاتفية اللازمة. وهكذا اجتمعنا في بداية فترة بعد الظهر في مكتب رجّل طويل يرتدي لباساً عسكرياً مموها غُرَته صهبا تميل إلى الزرقة تُشبه بنيته بنية ممثّل أميركي اسمه عبد الفتّاح يونس الضابط السابق عند القذّافي ووزير الداخلية السابق الذي التحق بالثورة وعيّنه مصطفى عبد الجليل قائداً أعلى لقوّات ليبيا الحرّة. "حلف الناتو" ليس على ما يُرام؛ رشق عبارتّه في البداية مع هذا الجانب السكران؛ وهو يهزهز برأسه قائلاً: "غالباً ما رأيت قادة الحرب في نهاية الليالي ساهرين يشربون القهوة في الغرف المحصّنة التي ينبعث منها الدخان ويتلقّون البيانات التحذيرية التي تنهال عليهم كل ثلاث دقائق يتلوّون تحت ثقل التحذير لكنهم مع ذلك. يُقرّرون." غمغمَ‏ بصوت ما يزال ثقيلاً: "قامت فرنسا بعملٍ خارق...خارق...لكن الآن لم يعد الأمر يسير على ما يُرام... منذ تركتم حلف الناتو يأخذ زمام المبادرة لم يَعُد هناك قرار وما عُدنا نشعر بوجود إرادة لم يعُد الوضع ماشيا والأخبار لم تكن جيّدة هذا الصباح" ذكْرَنيٍ باللواء مسعود في بنشير غداة سقوط طلْقان...وبعمير بيرتز وزير الدفاع الإسرائيلي صبيحة اليوم الذي أسر الفلسطينيون عسكريّين من صفوة عساكره في حضَمَ الحرب الثانية على لبنان... وبديفيجاك خلال الساعات السوداء لحصار سراييفو، حيث نمت كطفل: عشر دقائق ورأسي على الطاولة؛ وبِّلتٌ بلعَابِي ما عليها من تقارير المجلس العسكري غير المكتملة واستيقظتٌ مذعوراً. وألج قائلآ كما لو أنه هو أيضاً قيد الاستيقاظ ويشقٌ عليه أن يُجمّع أفكاره: "حلف الناتو بطيء التحرّك... نُعطيه الإحداثيات... لكنّه يجلس فوقها... يجلس بهدوء تامّ... وحين يُقرّر أن يتحرّك أفّ أفف! فاتت القُرصة؛ واختفى الهدّف. ..تعالوا ستفهمون ما أعني. قادنا بخطى مُتثاقلة إلى الطابق الأرضي وأدخلنا "غرفة المراقبة" "غرُفة العمليّات" وهي عبارة عن قاعة واسعة مليئة بالخرائط حيث يعمل ثلاثة ضبّاط قادة من دون لباسهم الرسمي وحيث تصل مبدئيآ كل المعلومات القادمة من أرض المعركة وتُنقل إلى حلف الناتو الذي يُقرّر أن يقصف أو لا. لست مُتأكّداً من أن أجانب آخرين دخلوا هذا المكان شديد السريّة. طلبتٌ من مارك وفوجتا أن يُصوّرا كل شيء فيه. أخذ كتاباً ضخما مجلّداً يشيه سجّل محاضر مجلس إدارة ويفتحه لا على التعيين قائلا؛ "خذوا مثلا أنتم في صفحة 5 نيسان/ أبريل؛ وترون هنا إشارة إلى هدف أرسله مجموعاتنا إذاً في الخامس من نيسان؛ الساعة السادسة؛ غير أن..." تردّد. مضى إلى الصفحة التالية، ثم عاد.. غير أنه أضاف أحد الضابطين الذي جاء لنجدته وأرانا مُلاحظة في أعلى الصفحة "حلف الناتو لم يُجبّنا إلا في الساعة الحادية عشرة والنصف؛ أي بعد خمس ساعات,؛ سيّدياللواء..." قال اللواء: "هو ذا" مُزايداً من دون أن يعرف إن كان عليه أن يُبِدِي سحنة آسِفْةٌ بسبب ساعات التأخير الخمس أم سحنةٌ ظافرة لأنْ الملاحظة تجعل الحقٌّ معه؛ فحلف الناتو رُبّما تعمّد السماح بفرار الهدّف حين لم يتصرف بطريقة أخرى. ثمّ توجّه إلى الكولونيل ثانية وقال: هل تُعطينا مثالا آخر؟ أخذ ورقة مُنفصلة موضوعة على أكبر خريطة ‏ تلك المفتوحة في وسط الطاولة المركزية. وأشار إليه اللواء إشارةٌ سأم وإحباط؛ علامة يبدو أنّه عنى بها "تابع" هذا يؤلمني جدأ والكولونيل هو الذي يتابع: "هذا رتل مُكوّن من دَبَابتّين وثلاث سيّارات مُصفْحة خفيفة وأربع شاحنات تخرج من البريقة. هذه إحداثيات وصلت اليوم الساعة السادسة: إلى ضابط الارتباط..." قاطعته بالقول: "ضابط ارتباط مَن؟" ضابط ارتباط حلف الناتو. لأنّ لحلف الناتو ضبّاطً ارتباطٍ على الأرض؟ طبعاً. ضبّاط بريطانيون وإيطاليون؛ وفرنسي واحد قُبطان بحري وصل معكم ونحن نعرف أنكم رأيتموه. هذا صحيح؛ ولكنّي لم أكن متأكداً. تلقّوا المعلومة الساعة السادسة. والساعة الآن الثالثة؛ وحتى الآن. ونحن نتحدّث؛ لم نتلقٌ أي خبر عن أنّهم قصفوا. قدّم لنا مع زميله ثماني حالات من نفس النّمَط أخذت كلها في الأيام الأخيرة وهي تُشير إلى الدائرة القرار التي يبدو أن متوسّطها يتراوح؛ في الواقع؛ بين ثلاث وعشر ساعات. فلماذا هذا الزمن؟ ومن دون الدخول في بارانويا نظرية المؤامرة التي إن لم ألاحظها عند عبد الفتّاح يونس  فعلى الأقل عند مُعاونيه الذين قالوا :"ماذا يُريد حلف الناتو؟ وبم يلعب؟ ألا يفعل هذا عن قصد؟ أليس من البديهي أن الأشياء تتم بصورة أفضل حين يتحمّل كل بلّد مسؤوليته الكاملة عن عمليات القصف التي يقوم بها؟.." بدا اللواء مُنهكاً فصعدنا إلى مكتبه ثانية. قال مُزايدا وهو يرتمي بتثاقل على أريكته كما لو أن زيارة غرفة العمليات استنفدت قُواه: "وخصوصاً أن هناك شيئاً آخر هو هذا" ومن دون أن ينهض سحب من ملّف مرتب وراءه على رفٌ صُوراً غير واضحة ولكنّها تظهر هياكل دبّابات. وشوش قائلاً: "هذه دبّاباتنا".

قاطعه جيل قائلاً: لأنْ لديكم دبّابات؟ قال بصوت خفيض جداً يكاد يكون غير مسموع: طبعاً. ضبطتٌ نظرة مارك. كان قلِقاً من نوعية الصوت في التسجيل رفعتٌ كتفيّ لأقول إننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً وأنني أحسستٌ بواجب ضبطه وأنَّ المهم هو مضمون ما سيقول. عندنا ثلاثون دبابة ت ‏ 54 وت 55 التي قد لا تُعادل دبّابة ت ‏ 72 التي يمتلكها القذافي؛ غير أننا أصلحناها وهي تعمل غير أنّ... توقف عن الكلام مُتأكٌداَ مرّة واحدة من أن الكاميرا تُصوّر. غير أنْها كانت قبل يومين ضحية ما يُسمّيه عسكريُوكم بالنيران الصديقة. اعتباراً من الآن احسبوا حساباتكم... أنتم الفرنسيين في مهمة؛ وتمَثّلونُ ساركوزي إذاً قوموا بحساب الكلفة وانقلوه... لم يكن لديّ. الوقت لأقول له إننا لا نمثل أحدأ ولسنا مُتأكّدِين من أننا قادرون على أن ننقّل شيئاً يُذكر. كان قد تناول ورقة بيضاء وجعلها ضمن إطار الكاميرا. رسم عليها عمودين وشطبّهما وعاد إليهما ثانيةً وتوقف عندهما كأنّ هذا يفوق قُواه. قلت هذا للوزير جوبّيه مرّتين على الهاتف. لكنّه لم يفعل شيئاً، فمن جهة أنتم بطيئون بطء قرار حلف الناتو حين نشير له إلى تمركز كتائب القذّافي ومن جهة أخرى يجب تسمية الأشياء بأسمائها والقول أنتم مستعجلون استعجاله في قصف آخر رتلٍ بائس من دبّاباتنا مع أننا أعلنًا له عنه بوضوح الحقيقة... استسلم للغضب. رأسه كرأس الأسد العجوز الذي وصفه الكاتب اكيسيل؛ مستعدا دوماً للاستيقاظ والزئير. لكنّ الصوت ظلّ مختفياً بغرابة. الحقيقة هي أننا لن نصل... عفواً؟ . لم يعد الصوت مخفياً وحسب. بل صار مكسوراً. يرتعش قليلاً. إِنّه صوت أسدٍ عجوز لم يعُد يعرف الزئير وأدرك أنّه كذلك. إِنّه صوت مُتبجّح لم يعد فاعلاً فانهار. قال بصوت أكثر انخفاضاً أيضا أقرب إلى النحيب: "لقد أنقذتم هذه المدينة" وهذا شييء حسّن. لكن إذا لم يُقدّم أولتك الذين أنقذوا المدينة أنفسّهم وبسرعة كبيرة كل ما تحتاج المدينة إليه فلا أستطيع أن أضمن الدفاع عنها، لم أعد قادراً على التحمّل، هذا هو الواقع" رأيت في عينيه عيني العسكري. دموعاً تتكلّم؛ لا أستطيع أن أقول إن كانت دموع الاهتياج أم دموع العجز أم دموع العجز والضيق. أو رُبّما دموعاً كوميدية بسبب وجود الكاميرا. ثم إنه لم يعد يفعل شيئاً، إذ تجمّد وجهه وانغلق. أشرت إلى مارك بأن يُوقِف التصوير.

السبت 9 نيسان/أبريل: نهاية (مكان غريب عجيب من أجل اتصال هاتفي مع ساركوزي( المرآب الذي كان خالياً عند وصولنا يعجّ الآن بالرجال المُسلّحِين وبسيّارات البك ‏ آب التي تذهب في كل الاتجاهات، حتى إِنْ هناك شاحنتّين تعلوهما منصّة صواريخ مُضادة للطيّارات تتهيّا للنصب، في حين أنّ منصة أخرى سبق نصبُها وهي تُشبه كلباً واقفا ينظر صوب السماء وثمّة أيضاً على بوابّة المدخل رشاش ثقيل كأنْ المسلّحين يتوفّعون هجوماً. وقفنا أما سيّاراتنا مصدومين بصورة جنرال رأى كلّ شيء وعرف الشاردة والواردة وعبّر كل حلقات الجحيم بما فيها الحلقات التي رسمها هو نفسه؛ وعاد هنا تحت أعيننا إنساناً عادياً يبوح بعجزه وهياجه واضطرابه. أَلَحّ أحدنا لكي يُعقلِن الأشياء على حضور الكاميرا متسائلاً عَما إذا كان الرجل قد تصنع هذه الملامح. ولاحظ آخر أَنّه عندما أجابنا لم يعرف عدد الدبابات التي دمّرتها النيران الصديقة "الناتو" فهل هذا جادٌ حقاً؟ أمَا الثالث فشدد على أن هذه الحرب هي حرب شباب شباب مدنيّين مُتمرّدين إذ لا نرى على الجبهة كثيرين ممّن يرتدون اللباس العسكري فهل يكون جنرال مُحترف شَابَ في جيش القذَّافي مصدر المعلومات الأكثر فعاليّة في واقع موازين القُوى؟ لكنْ حسناً. الحقيقة واضحة فنحن جميعاً مصدومون بهذا المشهد غير الطبيعي. وقد احتفظنا في أعيننا من دون أن نصرّح بنظرة هذا الجُنديّ العتيق المُجرّبٍ الذي ينصاع أمام أناس لا يعرفهم: الاعتراف باهظ الثمن بالنسبة لعسكريين من نوعه. وشعرنا جميعاً أن في هذا التصرّف رسالة؛ رسالة بالمعنى الحقيقى ورسالة عاجلة حاول إيصالها بهذه الطريقة أو تلك.. اليوم هو السبت.. الساعة الثالثة بعد الظهر. أمام هذا الموقف أمام هذه المعلومة التي هي خطاب جنرال قائد الدفاع عن بنغازي يُصرّح فيه أنّه لا يملك من القّدرات ما يسمح له بالاستمرار في مهمته؛ وأنّ المدينة تجد نفسها في الحالة التي كانت عليها قبل شهر عشية تدمير الطيّارات الفرنسية لأوّل رتل دبّابات كان يدخل ضواحي بنغازي فاستعدت ردّة فعلي آنئذ وهناء في هذا المرآب في قيظ بداية فترة بعد الظهر حاولتٌ من جديد أن أتصل برئيس الجمهورية. إذا حكيتٌ يوماً هذا المشهد سيقول الناس إِنّهِ يسخر.

سوف يقولون: "ما قصّة هذا الكاتب الذي ما إن يجد نفسّه في بنغازي: حتى يأخذ هاتفه: ويتصل بساركوزي؟" ومع ذلك: هكذا حصلت الأمور. ما إن شعرتٌ أنني أقل تشوّشا ومُستعيداً توازني بعد لقائي بعبد الجليل في بيت الاستعمار الجديد بطرازه الإيطالي حتى تصرّفت بالطريقة نفسها. والذي أثار دهشتي من جديد كما في المرّة الأخرى أنني كنت محظوظاً حين وجدثُ أمانة سر الرئاسة في دوام مُستمرٌ وأمّنت لي الاتصال فورا: السيّد الرئيس... أنا في بنغازي... أعرف هل كل شيء على ما يُرام؟ تقريباً نعم. أنا حائر في هذا الاتصال لكنّ عندي خبرين. خبيرٌ مُسلٌ وخبر هام -ابدأ بالخير الهام. -لا. سأبدا بالُمسِلي وسيكون قصيراً قبل قليل وُلِد طفل في طبرق؛ سماه أهله باسمك. -عفواً؟ -سموه انيكولا ساركوزي. -اسم عائلته: لا أعرف. لكن اسمه الأول هو "نيكولا ساركوزي". -هذا غير معقول! ليس بالضرورة. هذا يُشبه ما حدث في الستينيات لحظة صدور كتاب رونيه ديمون حين أطلقتٌ العائلات السنغالية أو عائلات ساحل العاج على جيل كاملٍ من الأطفال أسم "بدأت أفريقيا السوداء بداية سيئة". -طيّب. وما الخبر المهم؟ لا استطيع أن أجزم بأن قصّتي قد سلَته أو راقت له أو أثرت فيه آم أنه لم يُصِدّقها تماماً. قال وفي صوته بعضٌّ من الضيق الواخز: هات ما الخبر الآخر؟ -  رأيتٌ توا اللواء الُمكلّف بالدفاع عن بنغازي وأعتقد أننا إذا لم نُقَدّم له المُساعدة... لكننا نساعده! - في الظاهر لا نُساعده كفاية. - نقوم بها ينبغي القيام به. والآن عليهم أن يُكملوا العمل. '- المشكلة كلها هنا. يبدو كما يقول على كل حال بأنه لا يملك وسائل الدفاع عن المدينة. - لكنْ مَن يكون هذا اللواء؟ - يونس... عبد الفتّاح يونس...

-عر فته. بدا الرئيس مُرتاباً. فألححتٌ. -قال لي إننا إذا لم نُساعده فسوف يتقدّم القذّافي ويستعيد ما فقده من الأرض ولن يكون لكل ما فعلتّه فرنسا أيّة فائدة. -يجب النظر في الأمر... لست أدري. بدا مُستعجلا ليُّنهِي المكالمة. رُبمّا لأنّه لم يفهم ما كنت أريد قوله. ورٌبّما لأنّهِ وجد أن فرنسا قامت بما يلزم. أو ربمّا لأنه بكل بساطة مشغول. فحاولت تحت شك نظراتٍ جيل والآخرين الُمقامرة بكل شيء لأربح كل شيء. لحظة سأجعله يأتي إلى باريس. عفواً؟ -نعم. سأقترح عليه بأن ندعوه إلى باريس. -وماذا نفعل إذ ندعوه؟ آتي به إليك. ساد صمتٌ على الطرف الآخر من الخط. يجب أن أعترف بأنني مُنزعِج من فكرتي لأنني حتى الآن لم أقترح أيٍّ شيء على يونس. هل أغلق الرئيس الخط؟ لا ما يزال على الخط. وهنا صار الصوت واضحاً (فلا بد أن المنطقة تملك أجهزة اتصال عالية الجودة لأنَّ نوعية الاتصال أفضل بما لا يقاس من نوعيّتها في تيبستي قبل شهر) فأجابني: لا... فجعلته يُرَدَّد: هل ستكون مُستعدًاً لاستقباله؟ نعم. هذه فكرة؛ في الواقع. فقلت بالتالي: لم لا يجب الاتصال بي من باريس وترتيب هذا الأمر مع ليفيت. وأغلق الخط. هل فهم تاماً ما طلبته منه؟ وهل هو جاهز بالفعل هذا اللقاء الجديد؟ هل في وسعنا الآن أن نعود ونرى يونس ونتحمّل مسؤولية جعله يُغادر بنغازي ‏ وخصوصاً أنني أعرف خطأ أو صواباً أنه لن يترك بنغازي إلا إذا كان مُتأكداً من أنّه سوف يرى ساركوزي وليس أيّ شخص آخر؟ لم يعد أمامي من خيار. صعد علي زيدان إلى الطوابق العليا ليُخبر صاحب الشأن. عاد بعد عشر دقائق بردّة فعله: يقبل طبعا بشرط أن يُوافق مصطفى عبد الجليل (المشكلة الوحيدة؛ كما قال هي أنه يجب أن يُسافر غداً إلى روما ويعود في طيارة عسكرية إيطالية لم سيقضي الليل هناك وفي هذه الحال يكفي أن ننزل ونحن في طريقنا إلى باربس؛ في مطار فيوميتشينو حيث سيكون في انتظارنا(. اتَصل بعبد الجليل ليضمن موافقتّه ومن جديد أعطى موافقته. اتصلتٌ بليفيت الذي لم يكن على عِلم بشيء (وليس هذا دليل خير) فبدا مُتحفّظاً على فكرة أن يلتقي الرئيس وحده باللواء (وهذا ما أقلقني بعض الشيء). لكن لم يعُد في وسعنا أن نفعل شيئاً. فمهما حصل ستكون هذه الزيارة إلى فرنسا بادرة طيبة. لم يبق إلا أن أرجو أن يتذكّر الرئيس وعدّه ‏ وأن يكون الاستقبال مُشرّفاً. الأحد 10 نيسان/أبريل (رئيس الشباب) بدأت هذه الثورة وعلى كتفي حاسوب وبعد شهر صار في مكانه بندقية. الرجل الذي يعبر بهذه الطريقة يُدعى مصطفى الساقولي. كان؛ في حياته الماضية رئيس مشروع لبيع الشرائح الإلكتروني وقد صار بعد عدّة أسابيع قائدٌ جيش الشباب قائد هؤلاء المحاربين الفتيان غير النظامّين الذين من جهة أخرى ليسوا جميعهم شباباً فبعضهم ‏ من رأيتهم: عند وصولي في التدريب في الأرض غير واضحة المعالم وأنا واقف بعيداً عن الأسلاك الشائكة ‏ في الأربعين وفي الخمسين. بل أكثر من ذلك لكنهم ليسوا غير مُنظمين إلى الدرجة التي نُريد أن نعتقد بها (يتكون كل عمله كما شرح لنا بالتحديد من محاولة أن يجعل من هؤلاء المحاربين جيشاً فعلياً(. نحن في معسكر 17 شباط/ فبراير الذي أطلقت عليه هذه التسمية بعدما كان قبل الحرب؛ واحداً من سجون النظام الذي بنى أقسامّه عمره أربعون عاماً نحيل جميل الوجه له سكسوكة، يحمل شالاً بُمربّعات، يحمل رتبة عريف (7) على الكتفين. تظهر عليه ملامح الذكاء والفضول. نظرته مُغريّة، صوته فاتن، إن بطريقة ما الأنا الآخر المدني لعبد اللطيف يونس- ويشكل للمقاومة المدنية ما يشكله الآخر للمقاومة العسكرية. قُمنا معه بجولة سريعة حول أمكنة التدريب، زرنا مواقع الرمي، ولما لم يكن لدي متّسع من الوقت: كما حصل معي قبل قليل في مُعسكر القوات الخاصة، لم يتوفر لي الوقت الذي يُمكنني من تدوين أية ملاحظة وهو تحت رقابة اللواء يونس وما تبقى من الجيش النظامي في بنغازي؛ وحقول الرمل حيث يُدَرّبٍ الرجال على الجري والقفز والتسلّق على حافة طويلة والصعود على سلّم من الحبال في وقتٍ قياسي التدريبات التقليدية لكل وحدات النخبة في العالم. قضى الوقت معنا في تفقّد مائتي رجل مصفوفين في أربعة أنساق سيشكلون مُستقبلاً وحدة مُقاتلة كانوا يُعلّمونها توَأ تحت شمس حارقة كيفية تنفيذ التحية والنظام المنضم وهتاف: ليبيا حرّة وتقديم السلاح (الذي لم يكن في الواقع إلا عِصيًاً). وكانت دهشتنا كبيرة إذ رأينا مرّة أخرى أن الكتيبة التي يُفتّرض أنها كتيبة شبيبة تضم بالإضافة إلى الشباب؛ عدداً لا بأس به من "اُلمسنّينَ": فيهم من تجاوز الأربعين وأحياناً الخمسين والستين وفيهم مُثقفون وقادمون من الأعمال الحرة شعرهم أبيض يضعون على رؤوسهم عمائم مُزركشة حركاتهم غير مضبوطة ووجوههم مليئة بالنمش أو غير مُعتادة على الشمس - إِنَّه الخليط النموذجي مُتعدّد الأشكال والألوان؛ الذي يُميّزْ كل الجيوش الشعبية وكل جيوش التحرير التي استطعتٌ أن أراها في حياتي، وفى هذه الكنية أربعة أوخمسة سلفّيين مُحتمَلِين تدلّ عليهم لحاهم القصيرة وجّهوا لي التحية من دون تحفظ . إذا قمنا بهذه الجولة. لكنّنا الآن في البرّاكة الخشبية التي تُستخدّم مكتباً لقائد القاعدة. أمّا ما يهمّني أكثر من أي شخص آخر فهو مصطفي الساقولي. هيئته الذكيّة كما قُلت. طريقته في شرح أن هذه الثورة بدأت كما في تونس وكما في مصر عبر الإنترنت. وجانبه المباشر. طريقته غير المُعتادة في الإجابة بدقّة على الأسئلة المحدّدة التي نطرحها عليه أكثر دقَةٌ بكثير من طريقة اللواء يونس يوم أمس. بدأ بالقول إِنّ ألفي رجل دربوا هنا، ثلثْهم أنهوا تدريبهم وعُينّوا في الدفاع عن بنغازي وثلثهم في المواقع المتقدّمة؛ وخصوصاً في اجدابيا، والثلث الأخير وهو ثلث صغير رأيتم عناصره قبل قليل وهم ما يزالون هنا للتدريب...كان كأنه يبحث في ذهنه عن كلماتٍ يقولها. لكن يبدو لي أنْ هذا شيءٌ ما يعرف كيف يصل إليه. حذار. عليكم أن تعرفوا أيضاً آنّ هناك عدداً كبيراً من المتطوّعين الذين يقدّمون أنفسهم لكننا لا نستطيع استقبالهم. أحياناً لأننا لا نملك بذلاتٍ عسكرية ‏ غير أن هذا ليس هو الأخطر. فأحيانا لانجد سلاحاً نوزعه عليهم: وهذا هو الأكثر إزعاجاً... واستشار بالنظر ذاك الذي قدّمه لي في بداية الحديث بوصفه الشخص رقم واحد الحقيقي في القاعدة واسمه فوزي بو قاطف. وهو مهندس في صناعة البترول يبدو أن منصور يعرفه ورُبما ظلّ منزوياً إِمَا لأنه لا يتكلّم الإنكليزية جيّداً وإمّا لسبب آخر فالرجل لم يعترض على أي شيء لاحق من حديثنا. مشكلة الأسلحة مُزعجة للغاية. أعرف ما يُقال في أوروبا عن أن التحالف يُنفذ في الجوّ بشكل كامل ما يجب أن يفعل وأننا نحن على الأرض لا نلحق به. ولكن كيف تُريدون أن نلحق به ونحن نفتقر إلى كل شيء وليس لدينا حتى ما نجهز به المقاتلين؟ ألقى نظرةٌ سريعة على حاسوبه المفتوح؛ على لوحة أرقام. ... مائتان واثنا عشر شابا هذا الصباح فقط حضروا وكان علينا أن نُعيدهم إلى بيوتهم؟ ومع هذا سيكون هذا بسيطاً... أخرج ربطة أوراق من مُصنّف بلاستيك لاحظتٌ منذ البداية أنه مُعلَّق تحت الحاسوب كأنها لِيثبته، ووجه نظرة جديدة إلى الشخص رقم واحد الذي ظل غير قابل للاختراق. استأنف يقول والأوراق في يده وكأنه يتردد في أن يُعطيني إيّاها: أعرف أنك تتحدّث مع الرئيس ساركوزي ونحن جميعاً نعرف الدور الذي قُمتَ به ولن ينساه أحدّ هنا. فهل يُمكِن أن تحمل هذه الأوراق؟ وتُسلّمها له؟ كل شيء فيها. سلّمني الأوراق. أربع صفحات مكتوبة باللغة العربية. هذه قائمة أسلحة... قائمة صغيرة... لكّنا في حاجة ماسّة إليها... وهناك أيضاً خارطة طريق مشفوعة بمشروع استراتيجي... انظر. استعاد الأوراق ووضّعها على الطاولة بيننا وبدأ يقرأ بطريقة المربي اللامع مُشدّداً كل مرّة بإصبعه على عناوين الفصول: "مائة مُصفْحة 4/4... من عيار12,5 ومن عيار 514,... ومواد نقل... مائتا جهاز هاتف تلكي- وكي بالإضافة إلى قاعدتين أو ثلاث إِنْ أمكن... وأقل ما يُمكِن مائة بك آب وبين سبعمائة وثانمائة RPJ7... وألف كلاشينكوف... وأربع وإن أمكن خمس قاذفات صواريخ ميلان". نظر إلي كأنّما ليقول لي: "وهكذا دواليك؛ أنت ترى الطراز". وختم وهو يطوي الأوراق ويمدّها إليّ من جديد. -هل تعتقد أنَّ ذلك ممكن؟ أضع هذا بين يدّيك. التفت بدوري إلى جيل ثم إلى فوجتا الذي أوقف الكاميرا لكني أشرت له بأن يستمرٌ في التصوير. -ماذا تقصد بكلمة ممكِن؟ فأنا لا أملك أية كفاءة في معرفة هذه المواد...؟ فقطب تقطيباً معناه: أوه الكفاءات! لم أكن أملك أنا أيضا أيّة كفاءات!. فالححتٌ بالقول: أنا كاتب، ولستٌ دبلوماسياً، كما أنني على الأخصٌ غير عسكري. وهذا الحديث يتجاوز قدراي. لكني سأكلّف أحداً بترجمة الملف، وسأسلّمه لرئيس الجمهورية. نعم أستطيع أن أقوم بهذا. أجابني الساقولي بابتسامة مُبتهجة: هو ذا المطلوب، نحن لا نطلب منك أكثر من ذلك. ثُمّ إن هناك شيئاً آخر... ونظر إلى رئيسه من جديد. -الخطة. -الخطّة؟ عندي خطّة نعم. سريّة. لكنها سوف تُغير مجرى هذه المعركة إن تَحمّلتُم أنتم الفرنسيين تّبعاتها. أخرج من مُصنّف آخر خارطة ليبيا ومدّها على الطاولة ‏ وقام. الكاميرا ما تزال تُصوّر. -هل ترون هذه المنطقة؟ ‎‏ بين بإصبعه المنطقة الساحلية ‏ التي نُحارب حولهًا منذ شهر: اجدابيا والبريقة وسيرت ويجول بإصبعه في عملية ذهاب وإياب لا تتوقّف. يوم نحن... ويوم هم... لا معنى لهذا. اقرؤوا مُذكرات رومل. كل الناس يعرفون أن حروب الصحراء هذه: لا أحد أبداً ينتصر فيها حقا ولا أحد ينهزم حقاً. وباُلمّقابل انظروا هنا... وقام بالإصبع نفسه بحركة تحليق فوق ليبيا وبالهبوط في مركز الخارطة جنوب البلاد. -هنا ماذا تقرؤون؟ قلت بعد أن رفع إصبعه: الكفرة. صاح بهيئة المنتصر ها هي ذي. الكفرة! لاداعي لأقول لكم: أنتم الفرنسيين. ما ذا تعني لكم الكفرة! بالفعل... أوّل انتصار للفرنسيين الأحرار... الثأر للشرف والشجاعة... انظروا الآن هنا... : ومن جديد انهال الإصبع على الخارطة ووقع على نقطة أخرى؛ أبعد باتجاه الشمال. أنتم في تازادا. ومارادا هي منطقة آبار البترول. هل تُتابعوني؟ الكاميرا مُستمرّة في التصوير. وكان يعلم بذلك. فذهب الإصبع في الاتجاه الآخر على الساحل. كل كتائب القذَّافي هنا. بينها هنا... ومن جديد أيضاً عاد إلى مركز الخارطة. كأنّه مُشعوذ يقوم بحركات خِفية. هنا في مَارّادا لا يوجد أحد. هل تسمعوني؟ هذا الغبي جمع كل قوّاته على الساحل وحوالي سرت وفي هذه المنطقة الإستراتيجية جدأ لا يوجد أحد. وتباهى بمظهر الفوقية والوضوح..‏ هذه هي خطتي السريّة: نُرسِل وحدة من النّخبة إلى الأغاليا بين البريقة وراس لانوف، ومن هناك نتحرّك باتجاه مارادا. ثم يحمل ننقضٌ على الزنتان وعلى مصراتة التي تُحرّرها. لكنْ على الخصوص. على الخصوص نبسط سيطرتنا على آبار النفط في المنطقة. ما رأيكم بذلك؟ هذا الهجوم المُبِاغت هو الشيء الوحيد الذي لا يتوقعه القذّافي. ‏ مرّة أخرى لا أعرف أي شيءٍ من كلّ هذا، لكنني أحِبّ فكرة الهجوم الْمباغت. يبدو لي أن لنا مصلحة دائمة في... قاطعني بينما كان انفعاله يتعاظم وكأنٌ التكلّم معي يُعَزّز وعيه باهميّته الإستراتيجية. لنا أنصارّنا في مارادا. اتصلنا بهم. وهم معنا 100/. الخطّة جاهزة. نحن فقط بحاجة إلى المساعدة. أفهم ذلك. هل ترون الصفقة؟ -آه الصفقة.. لا قل لي. تُساعدوننا. بعض المروحيّات الُمقاتلة تكفي: وبعض الوحدات الخاصّة على الأرض. فنسيطر معاً على آبار النفط وأنا أجلِب لكم عل طبَّق رمز الكفرة. وضع في جيبي الأوراق الأربع المكتوبة باللغة العربية حيث توجد قائمة الأسلحة التي يحتاجها. وردّد عدة مرّات وهو في حال من الاهتياج المتزايد: " الآن نحن شركاء». وشدّد على هذا بالقول: "فرنسا بالنسبة لنا غير إيطاليا فبيننا وبين فرنسا صفحة بيضاء. ومن ثّمّ وقد بدا بهيئة المفاوض الذي يعتبر أنه قال كل ما عنده وأنّ علينا الآن أن نقبل عرضّه أم لا.. أغلق حاسوبه؛ ونهض وقادنا بخطى مُتثاقلة لنزور أقسام المعسكر التي لم نرّها بعد. مُراجعة جديدة تفصيلية في طراوة آخر فترة بعد الظهر؛ على أرض مُعسكر تدريب آخر حيث يتمرّن الْمجنّدون على الرمي في سحب من الغبار والدخان رمياً استعراضياً بقدر ما هو خلبي. مررنا بالمكان الذي أوقف فيه حوالى ثلاثين سجينا قبل تسليمهم إلى الصليب الأحمر إذ تم أسرّهم بين البريقة وراس لانوف وأكّد بأنهم عوملوا كما تقتضي قوانين الحرب:؛ بعدالة ‏أليس هنا المعنى المزدوج للحرب العادلة بحسب رأي فلاسفتكم المسيحيين الذين فكّروا في هذا المفهوم؟ إذا قائد الشباب يعرف فلاسفة مسيحيين... توقف لبعض الوقت كي يتحدّث بالهاتف مع أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي قد يكون علي العيساوي؛ في موضوع الخطأ غير المفهوم الذي ارتكبه حلف الناتو منذ ثلاثة أيام والذي ذكره لنا اللواء يونس. قال وقد استشاط غضباً: كيف أمكن أن يحصل مثل هذا الخطأ؟ ترجم لنا منصور بصوتٍ مُنخفض. ونظراً لأننا أعلمنا الحلف بحركتنا أليس علينا ‎أن نتصوّر افتراض خطأ مقصود؟ افتراضّ انتهاك؟ خيانة؟ وبدا أنه يذكر لُمحاوره غير المرئي كما يذكر لنفسه أيضا كلّ الشروح التي يُمكن تصوّرها كلّها. وفي الحديث تكرّر اسم شخص عدة مرّات مع تصاعد نبرة الغضب الُمخيف في كل مرّة هو يوسف منقوش. علّق بالقول لحظة توقف الحديث -حيث كان ينتظر أن يتصل به الآخر: هذا أحد أفضل قادتنا. عمّره ستون عاماً. كان قائد الوحدة الوحيدة التي حاربت في تشاد ولم تتكبّد أيْة خسائر. وهو من عائلة كبيرة ونبيلة... قاطعه منصور وأبلغني خفيةٌ: هل تتذكّر تلك الصبيّة الأنيقة جداً التي تعرف كتبك والتي دعتك لتتحدّث أمس مساء في القاعة الكبرى في تيبستي؟ هي من نفس عائلة منقوش... نعم كان لقاء جميلًا لكنني لم أتمكن من أن أتحدّث مع نساء المدينة ‏ اللواتي يُعَبْرنْ بحر يضعن مناديل لكنْهنٌ غير مُحجّبات يأملن بليبيا علمانية وبضمان حقوق المرأة... وأردف الساقولي قائلاً: كان يتقدّم رتل الدبابات مسافة أربعين كيلو مرا فتعرّض نفسه للأسر والتعذيب التعذيب الوحشي هل تفهمون؟ وهذا السبب أيضاً أمنى أن يُعجل المجلس في فتح تحقيق عن سبب خطأ الحلف وكيفية وقوعه. وددتٌ أن أسأله عن العلاقة بين منقوش والدبّابات بين أسر منقوش وتدمير الدبّابات التي قصفها الحلف عن طريق الخطأ. لكنه كان قد تابع يقول: "أريتكم سجننا قبل قليل حسنا هنا أيضاً الاختلاف بيننا وبين كتائب القذّافي كبير جداً! فنحن نُسَلّم سُجناء للصليب الأحمر بينما هم عندما أوقفوا منقوش ومعه الكولونيل ناصر من طبرق عرضوهما على التلفزيون وأجبروهما على مُهاجمة الثورة بعُنف؛ ناصر انصاع لهم وقال إنه التحق بنا لأننا أخذنا أطفالّه رهائن؛ لكنّ منقوش لم يرضخ ولم يستسلم فهل تتخيّلون الصلابة التي لا بُدَ أنه أبداها من أجل هذا؟ لم أجد إلى الآن من الوقت ما يسمح لي بشرح صلابة منقوش وبربرية جلآديه وسرّ لف ودوّران حلف الناتو الذي لا يُمكن اختراقه فقد صرنا في السيارة تُغادر المنطقة ‏ مثلما طلبوا منا لكني فكرتُ بأنه إذ انصرف كليًاً إلى خطَته إلى "صفقته"؛ وإلى انفعاله قد نسي قصّة الحلف، نُغادر باتجاه الخطوط الأولى للدفاع عن المدينة أي حوالى أربعين كيلو متراً إلى الجنوب وأرجو أن نرى خطّ الدفاع عن اجدابيا. أرانا الساقولي الدبابات المُدمّرة بهياكلها الصّدئة. وآثار الديدان على الأرض قبل قصف الدبّابات التي تبدو محفورة في الوحل اليابس. فثمّة في قلب الصحراء حيث توقّفنا معاقل مُربّعة. وجدنا فيها كتيبة من الشّبان تخرج من معقله فهو مُدرٌبها ويبدو أنّهم جميعاً شاركوا بكل شيء في هذه العزّة الرهيبة التي صنعها لهم بوضعهم هنا في المكان الذي سيُوقفُون منه زحف الدبابات القادمة في ما لو عادت. وجوههم نضرة. . وهذه الأيادي التي تبغي القتل وما فعلت حتى هذه اللحظة غير الحِبٍ والعمل والمداعبة. هذه النظرات التي تتدرّب على الحزم: وتتحدّى عدوا مُتخيّلاً لكننا نشعر أحياناً أنها تُكافح أصلاً ضدّ القلّق. أما الفتى رامي الرشّاش الذي نزل ليُحِيّينا من برج آخر دبّابةٍ بقيت في الكتيبة فكتفاه غريبان غير مُتساويّين ليسا مفتولين تماماً اللَّهُمَ إن لم يكن معطفه القصير قد أعطاه شكل هذه الحدبة الخفيفة. ظهرت طيّارة تُنَفّذْ مُناوراتٍ خفيفّة. ووراءها خط دخان أبيض يتلبّد في السماء متكوّراً حول نفسه. فشرع رامي الرشّاش الفتى يشيره كالطفل إلى آثار الدخان صارخاً: "طيّارة: طيّارة". وحينئذٍ ثبتوا عيونهم جميعاً هو ورفاقه؛ في السماء . محاوِلِين وقد علّقوا حركاتهم؛ أن يفكوًا رمز رسالة الطيّارة. قال جندي الدبابة: هذه طيارة للحلف. فقال آخر: لا هذه للطاغية. قال ضابط صف خرج فجأة من خيمته: جندي الدبابة على حق؛ إذ لم يعد عند الطاغية طيّارات. فتدخل رابع ليحكم بينهما بالقول: طبعاً عنده طيّارات أكثر تطّوراً تأتي كما سوف يشرح لنا الساقولي لاحقاً من طرابلس: فقد زوّده الجزائريون توا بسرب منها. غير أن الساقولي حسم المسألة وكأن هذه الألعاب كانت تتعبه: "هيّا انتهينا نحن ذاهبون؛ علينا أن نعود إلى بنغازي وسيتأخر الوقت علينا إن أردنا أن نسافر هذا المساء إلى أجدابيا". في السيارة قال من دون تفكير وفي نظرته بريق أسود غريب: "هل تريدون أن نعقد ميثاقاً؟ أقودكم غداً إلى خطوط الجبهة في اجدابيا. وأنتم, بالمقابل تقودوني إلى رئيسكم كي أعرض له خطتي". وأخيراً!

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح7
الأحد, 14 فبراير 2021 22:07

  لو أن كوشتر ما يزال وزير خارجية.. كوشنر؛ من جهة أخرى قضية جادة..غالباً ما أفكر فيه. أفكر بأنه كان بالإضافة إلى غلوكسمان, وإِلّي لكنْ أكثر منا مُبتدع وجوب التدخل الذي يشهد من دونه أوّل تحقّقه. أظنٌ أنّ خياره في أن يكون وزيراً هنا الآن مع هذا التدخل في ليبيا الذي كان لابْدَ من أن يجد مُبرّره ومنطقه. قلتٌ دائما في تلك الفترة أنه أخطأ حين قبل المنصب. وطالما قلت له عندما طلب رأيي أنه بقبوله وببخس قيمة أسطورته؛ خان سيرته الذاتية. لكن على الأقلّ القضية الليبية التي ستثار في النهاية والتي خلقت من أجله وفُصّلت على قدّه على قدّه وحدّه؛ سوّغت كل شيء. والحال أن ليبيا لم تُسوٌغ شيئاً. لأنه بعد عدّة أسابيع تقريبا فوّتها. فتجرّع الإهانات ومسح كل الإزعاجات وصمت عن.الصّينَ والدالاي لاما وفي دارفور وقال أمام بوتين عكس ما كان يعتقد ‏ ولحظة شروعه في إثبات أنه كان على حق لحظة كان مَلاك التاريخ على وشكِ التجلي والتوبة عنا عَبْر ليبيا كان مُجبراً على الرحيل وترك مكانه لجوّبيه. يا للسّخرية. يا للْحُزن. ثّم إن هناك في الوقت نفسه سخرية السخرية سُّخرية مُضاعَفة أتساءل: لو كان ما يزال وزيرا هل كانت ليبيا هي ليبيا. بالتأكيد ما كنت صِرتٌ ضمن اللوحة. لأنه بأقلّ من جوبّيه ما كان سيقبل تدخلا في مجال سلطته. لكنْ رُبماّ هو أيضاً سيكون خارج اللوحة. وربما ما كانت حرب ليبيا قامت أبداً. ورُبّما ما كان كوشنر الوزير سيتمكن من إقناع ساركوزي. ورُبّما ساركوزي في آلية عمله الغريبة الخاصّة به لم يكن ليفعل مع كوشنير ما فعلّه ضدّ جوبيه. مّن يدري؟

الخميس 31 آذار/مارس (نيوزويك وفرنسا) وصلتٌ إلى نيويورك أمس مساء. فذهبت على الفور إلى تينا براون التي كان يحيط بها فريقها من الصحفيين الشباب أصحاب المبادئ في صحيفتي النيوزويك والديلي بيست. ساركوزي هنا رجُل ممتاز. النوفيل أوبسرفاتور في باريس وضعت عنوان: «انتهت اللّعبة». ما يظهر هنا إِنّما هو حَزْمّه وشجاعته وطريقته في تناول هذه الحرب الجديدة في نوعها من وسَطِها. ومن جهة أخرى حضّرت النيوزويك غلافاً مع مقالة طويلة لكريستوفر ديشي عن موضوع «الفيلسوف ورئيسّه». فقلتٌ لتينا إنني أفضّل العنوان الثاني على العنوان الأوّل لأنّ ساركوزي ليس رئيسي. لكنّني وجدتُ صعوبة في إقناعها وفريقها بأنّ تحالّفاً مؤقتاً ليس انضواءً وأنني لم أصِير بعد ساركوزيا على الرغم من قضية ليبيا. ففهموا الأمر في النهاية.

الجمعة 1 نيسان/أبريل (ماتُ برنار. هنري ليفي)‏ أعلنتٌ موتي كذبةٌ أوّل نيسان في باريس. كما حصل لحظة اندلاع حرب البوسنة حيث أعلن مُفوّض الشرطة في الدائرة السابعة عشرة بعد أن تلقّى الخبر من الصربيّين القيمين في باريس أنني قُتِلْتُ أثناء الليل في بولفار بيري وعندما شاع الخبر كان أمام ماري جويل أوبير ثلاثون دقيقة لا تزيد دقيقة واحدة كي تحمل دليلا أنني على قَيْد الحياة إلى وكالة الصحافة الفرنسية. وكأنّ كون المرء قتيلاً جريمة وعلى المتهم الُمفترض في هذه المحكمة الغريبة التي هي محكمة الفُرجة العظيمة: أن يحمل الدليل الذي لا يملكه، فيها عدا أن هناك اليوم وكالة تويتر وأنّ الخبر لا ينتظر ثلاثين دقيقة ليبدأ في الانتشار أو كا يُقال من الآن وصاعداً في الطنين. حينئذٍ اتصلتٌ بجان ‏ باتيست دوكروا ‏ فيرنييه. كالعادة أتصل على الفور بساحر... على الإنترنت. وكما في كل مرّة يحرك جيشه الهائل من الأقزام؛ ويُرتّب لي الموضوع فورياً تقريباً. كيف يفعل هذا؟ هل يُغرق الخبر؟ هل يحقنه بحساب لعين كما في أشعة الليزر؟ هل يدخل المواقع التي تنشر الخبر بعد تكسير أبوابها كسارق مُهِذْبٍ بأسلوب جديد وُدّي واخوي بأسلوب إنسان مبدئي وفارس؟ هل يقتل الخبر؟ لا أعرف. لكن الجوهري أن هذا فعّال. تماماً كما في معركة «سكينه» التي ما كنت أبداً سأخوضها من دونه. كما في معركة اليونسكو حين تصرّف ووضع سدا أمام تعيين وزير مصري قديم كان قد وعد بإحراق الكتّب الإسرائيلية في مكتبة الإسكندرية؛ الكبيرة. ولم أستطع أن أربح المعركة إلا معه. كما في قضية بولانسكي الذي لا يعرف على ما أعتقد كم هو مَدين لهذا الإنسان الخارق؛ فائض الكرّم الذي في ما عدا بعض الاستثناءات لا يحِبَ الناس إلا عن بُعْد. أجل ألقى بنفسه في معركة انبعاثي من الموت وانتصر طبعاً. وعلى عجَلٍ اكتشفت شخصين أو ثلاثة أشخاص من معارفي أن الخبر لم يكن يُناقض شيئاً أكثر من هذا.

السبت 2 نيسان/ أبريل (يهودي مُحرض على الحرب) هل هو خبر من أخبار نيوزويك؟ مقالة ستيفن ايرلانجيه في نيويورك تايمز الذي يستأنف ويُطوّر مقالة جيرار في الفيغارو ومقالة سيّد مهران في مجلّة لو بوان؟ جاء في الجريدة النيويوركية ريشار برودي: «هل قاد برنار ‏ هنري ليفي حلف الناتو إلى الحرب؟) لكنني أشعر أنهم يخترعون هنا وفي فرنسا أيضا قصّة كاملة عن الموضوع: «هذه الحرب التي لم يكن أحد يُريدها» ‏ طريقة أنيقة ليقول: «هذه الحرب التي أرادها ساركوزي» وأوحى بها برنار ‏هنري ليفي وأشعلها هؤلاء الشياطين حُلفاء الظرف الراهن ومن أجل الظرف الراهن على ظهر الشعوب. الأذنٌ الثالثة تسمع شيئين. هنا في الولايات المتّحدة جنون نظرية المؤامرة الذي استبدٌ بالبلد لحظة اندلاع الحرب في العراق وافتراض سيطرة المثقفين المحافظين الجُدد على دماغ جورج بوش: ساركوزي ليس بوش إطلاقاً: أعود وأكرّر القول إن حرب ليبيا هي العكس الصحيح لحرب العراق وكثيراً ما كنت أنا نفسي ضدّ جماعة أسبوعية "ويكلي ستاندارد" لم ينفع هذا في شيء ولم يكن يمضي يوم إلا وأقرأ مقالة: أو مُدوّنة أو مُدوَّنة فرعيّة تحطم الموقفين أحدهما بالآخر وتخلط بين علاقتي بساركوزي وعلاقة بيل كريستول بجورج بوش. في فرنسا موضوع "سيلين" القديم الجيّد اْلمفضَّل عند الُمَعلّمين الذين "يُنوّمون" في الخفاء المُعلّمين بالمظهر فقط ويقودون العالم إلى مجزرة لا يُريدها أحدٌّ غيرُهم. فما تكون هذه الكائنات عديمة الذمّة هذه الوحوش الْمتَعطّشة للدماء التي وضعتنا في أجمل الأكفان المحتفلة رسمياً في مدرسة الجثث، والتي لا ترى في مجازر الشعوب البريئة إلا «تفاهةً»؛؟ هجائيات "سيلين" كانت ممنوعة طيلة ستّين عاما لم يُعَد نشرّها أبدأ وقد غرقت في اسمنت الحظر والرقابة الكارثيّة الأمر الخارق هو أن يكونوا هنا أحياء كما في أيامهم الأولى؛ ينفثون سمومهم ‏ أحياناً أقول كان يجب أن تُقرأ ومن المؤسف أنها حُظِرَت وأن وجود هؤلاء كان سيقل لو كانت هذه الكتّب غير محظورة وأننا أخطأنا جداً حين تصرّفنا وكأن الشعوب لا تملك الاوَعيها الخاص.

الأحد 3 نيسان/أبريل (سيلين أم شاتويريان؟) تعشَّيتٌ مع شارلي روز وأريانا هوفانتون. قلتٌ لهما: لنفرض أنني لعبتٌ هذا الدور لنفرض أنني ضغطتٌ فعلاً للمساعدة على إقرار هذه الحرب فقد سبق أن أشعل كاتب فرنسي الحرب. كاتب وحيد. هو كاتب هائل طبعاً. ولست هنا بصدد المقارنة المهم أن لا علاقة بين هذه الحال وحماقات مُعادي الساميّة التي تنتشر ببط في فرنسا ويجب القول؛ في الولايات المتحدة الأميركية أيضاً. السابقة هي سابقة "شاتوبريان" الذي حين صار وزيراً للخارجية؛ أيّْد قيام الحرب الإسبانية الحرب الأخرى حربه حرب 1823 وإعادة تنصيب فيردينان السابع على العرش. فألا يكون ثمة شيء يدعو للفخر إعادة العرش لحفيد من أحفاد سان لويس ليس تصويراً لواجب التدخل الذي حلِم به، شيء وألآ تكون تعليلات "شاتوبريان" إنقاذ عروش أوروبا وسحق شبح الثورة وبالمرّة الكسب النهائي لقبضته الحديدية مع نابليون جذّابة كثيرآ فهذه بديهة. لكنّ الحقيقة تكمن هنا، فقد أراد "شاتوبريان" هذه الحرب منذ مؤتمر فيرون. وعدّها إنجازاً من إنجازاته، وحين اكتشف "فيلل" الذي يُمثل قليلاً جوبّيه ذلك العصر سِر القضيّة ولاحظ أن وزيره غير مهتم بمشكلة تحويل الأرباح المُحاولة في ذلك الوقت لمُشكلة الديون السيادية في أيَامناالتي تُخاطر فيها حكومته بأن تصير أقليّة والتي يحتاج من أجلها إلى دعم وزرائه كلّهم كان قد فات الأوان إذ انتصر "شاتوبريان" في الحرب وما سوف يدعوه "مورا" ب "الطير الكاسر الوحيد عاشِقٌ الجثث" أضاف إلى مُذكرات ما بعد القبر بعضاً من أجمل صفحاتها.

الاثنين 4 نيسان/أبريل (اللغز أوباما) قال لي "كريستوفر هتشنز" الذي غيّر الصراع مع المرض سحنته لكنه لم يمس نقده وحزمه إزاء المبادئ: "ما تُظهره حفنة من الشباب في مُقاومتها لدبّابات القذَّافي من الشجاعة يفوق ما تُظهره إدارتنا مجتمعة" معه حق. فجُبّن الأميركيين غريب. وغريبٌ أيضاً ( لكن الشيء هو نفسُّه) أن ينطلقوا برعونة في هاتين الحربين الطويلتين باهظتي التكاليف والشاقّتِين للغاية ورُبما الخاسرتين هما الحرب في أفغانستان؛ وفي العراق ‏ ولْتكنْ هذه الحرب التي ليس فيها جيوش على الأرض وليست حرب الألف عام بين السنّة والشيعة هذه الحرب التي استغرقت بعض الوقت ولكنّ الجميع يعرفون أنها رابحة سلفا وباختصار لِتكنْ حرب ليبيا هي الحرب التي يدخلون فيها رغماً عنهم أو بتردّد. أتكون هذه خطيئة الولايات المتحدة الأميركية الإستراتيجية في بداية القرن؟ أتكونُ العلامة الحقيقية على هذا التراجُع, على هذا الخسوف الذي تحدّثت عنه "أريانا" ذاك المساء والذي سيكون النزعة الثقيلة للحظة الراهنة؟ أم أنها مشكلة أوباما هذا الرئيس المْتردّد غير الواثق من نفسه بالإضافة إلى أنه المذعن بغرابة لدفع حساب الآخرين. في هذه الحال حساب مرحلة بوش وحرب العراق اُلمدمّرة التي لا بْدَ أنه شعر كأنه سدّدها بالامتناع عن المشاركة في حرب ليبيا العادلة هذا على الرغم من أن الُحاجّة قد تكون مُعاكسة تماماً: هذه الحرب هي التي كان ينبغي أن تقوم الحرب التي لا ينبغي تفويتها ولأنّ بوش أخطأ في العراق: كان يجب على أوباما أن يكون على حقٌ في ليبيا؟ على كلّ حال في كل البعثات التلفزيونية اليوم لا أواجه باستثناء فريد زكرياء إلا انعزاليين غاضبين يُلقون في وجهي ثمن التوماهوك... الأريعاء 6 نيسان/أبريل (الذهاب ثانية) عدت إلى باريس. ومنها ذهبت ثانيةً إلى ليبيا. هذا مؤسف لأنني أَحبٌ نيويورك؛ وأنا في حاجة كلما عدت إليها إلى ثمانية أيام لأتلاءم مع هذه الحياة فيها. لكن يهب الذهاب إلى ليبيا. لأنني كي أُعبّر ببساطة: أشعر أنَّ ُمعارضةً حيّة تتعاظم ضدّ هذه الحرب؛ وأرى كثيراً من الحماقات تخرج من فَمِ مُشوّهين يعلنون أنهم ُخبراء في الشأن الليبي؛ وقد أزعجني جداً أن أسمعهم يُردَدونَ باستمرار: "هذا المجلس الانتقالي الذي لا نعرف عنه شيئاً... هذا البلد الُمقسم... هذه القبائل المُتحاربة في ما بينها منذ أجيال..." إلى حدّ أن علي الذهاب أوَّلاً لأرى؛ وفي ما بعد أشحن على عجل بطاريّات أجوبتي وحججي.

الخميس 7 نيسان/ أبريل (الذهاب ثانية!) عُدتٌ إلى باريس. نظمت :جوليا كريستيفا: حلقة بحثية عن الكاتب "سيلين" في جامعة باريس السابعة وكانت قد خصّصت لي مُداخلة. فيها: عدت في مداخلتي إلى مسار الأشباح في هجائيات الأشرطة الصوتية لتلك الفترة. ثم تناولتٌ طعام الغداء مع الشخص الفريد بوب ووردويرد الذي جاء إلى باريس ليُطلِق كتايّه الممتاز حروب أوباما: لا أستطيع معه الامتناع عن التعبير ثانية عن دهشتي أمام هذه الحرب التي فَوَتها أوباما على نفسه مع أنها لصالحه. أعني الحرب في ليبيا. "قلت له: أميركا تجهز الحرب بتقديم الإسناد والأقمار الصناعية؛ والتغطية التكنولوجية التي من دونها ستكون الطيّارات الفرنسية والإنكليزية والعربية عمياء. لكنها بقيت مُتراجعة بغرابة وبغرابة بدت بمستوى متدنَ وبغرابة يخلي نذير إله الحرب (مارس) إلى جمالية مُبالَغ فيها. لماذا؟". لم يكن لدى ووردوير أيّ شرح لهذا. لكنْ هناك ثلاثة افتراضات. خطأ تقدير الموقف بصورة طبيعي،. تسميم البيت الأبيض من البنتاغون، وإداراته التي لا بدَ أنها روّجت له أطروحة أنّ القذّافيٍ فائق القوّة وعالي التجهيز ولن تكون العصابات المتَمرّدة غير المنظّمة إلا لقم في فمه. أو لم لا الإدارة الأميركية نفسها التي ينحصر عمّلها في حماية حُلفائها في المنطقة وخصوصاً السعوديين ومن أجل حمايتهم؛ ينبغي إيقاف الوباء الديمقراطي على أبواب طرابلس غداً سأذهب ثانية إلى ليبيا..

العودة إلى بنغازي.. أقلعنا في الصباح الباكر. سلكنا مسار المرّة الأولى نفسه. مرسى مطروح ثُمّ السلوم وكنًا نحن أنفسنا: جيل مارك روسيل وفرانك فافري مع مُصوّر جديد فوجتا جانيسكا لأننا قرّرنا الأسبوع الماضي أنه علينا بالمرّة أن نجمع التجهيزات اللازمة بانتظام أكثر لتصوير فيلم مُكتَمل وحارس آخر فرانكو فافوريل وأخيراً صديقيّ الليبيّين المتلازمين اللذين تعرّفتٌ عليهما في فندق رافائيل، عرّفنا مأمورو الشرطة في المطار المصري فعجّلوا لنا بفضله توقيع الأوراق. وقادنا حتى الحدود نفس سائق سيارة "المينيفان" إلى الحدود سائق واحد للمدينة كلّها. أُلِفنا الطريق والحدود هي ذاتها الأمر المختلف الآن هو وجود عدد قليل من الناس. أكيد أن كثيرين نجحوا أخيراً في العبور، ولم تعد هناك كتلة البشر الهائلة العدوانية التي رأيناها في المرّة الأولى. غير أن الذين بقوا يبدون أكثر إنهاكاً.. عيونهم غائرة أكثر وقاماتهم أكثر تهدّماً. ينبعث منها حُزنٌ بلا غضب وخصوصاً أنها غير قادرة على الوقوف، فهي نفوسُ ميتة. نفوسٌ تُنادي من دون كليات. حيوات لا هدّف ها. حيوات لا شيء. ولادة فحياة فموت ولا يبقى شيء. وبينما كان علي ينتظر في الطابور تنبّهتٌ إلى وجود حُزْمةٍ من جوازات السفر في المكان نفسه الذي رأيته قبل شهر تظهر اليد نفسها وتختفي بسرعة كبيرة من نفس الفتحة الصغيرة في نفس الكوّة  باستثناء أنه لم يعد هناك من دواع لأن تزعج كتلة البشر البائسة تلك اليد إذ ما عاد حولها إلا مجموعة رجال ونساء مجّعدات الوجه ساهمات وأطفال يقضون الوقت باللعب في تنب حفر الماء الراكد التي حفرتها في الأرض أقدام مجموعات البشر الذين كانوا هنا قبل شهر أو اللّعِب "بحجّر الرّجل" الذي رسموه على الأرض الجافة حيث كوّنوا من أنفسهم أشكالاً غريبة تُشبه شكل النجمة وتنبّهت وأنا أنظر إلى هؤلاء الناس أنه إن كانت هناك معركة سوف تشغلني من بين ما يشغلني فهي هذه المعركة: المعركة من أجل هذه الحيوات الصغيرة الزهيدة التي لا مستقبل لها ولا قيمة.. قال لي كولومباني ذات يوم إن لدي رؤيةٌ ملحميةً عن العالم، لكنْ بشرط أن أضيف أنّ العام الملحمي ليس تمجيداً للشخصيات الملحمية الرسمية بل هو المعاملة الملحمية للشخصيات البسيطة التي لا معالم لها ولا أرشيف والتي لا يُغيّر موتها نظام العالم في شيء. وعلى المرء أن يبذل جهوداً على نفسه كي يستطيع أن ينظر في عيون إنسان ليس له نظرة، يلزمه الألم الملحمي لَيّقيّم وجوه الذين ليست لهم وجوه حقاً. لِيْقيّمِ هذه الدمدمة المخنوقة الغاضبة البشرية بالكاد، دمدمة أولئك الناس الراقدين في صالة الترانزيت القديمة...أجل! أعرف لماذا لم أحِبٌ أبداً الشعار المتأنّق: "جعل من حياته رائعة فنيّة". إذ ليس علي أن أجعل من حياتي عملا فنيَآ بل من حياة الآخرين أمثال هؤلاء. هذه المرّة تنتظرنا سيّارات على الجانب الآخر من الحدود. رجال أشِدَاء مُسلّحون بالْمسدّسات بالإضافة إلى بنادق كلاشنكوف وبندقية هجوم بين المقاعد الأمامية في كلّ سيّارة من السيّارات الأربع. في سيّارتي رجل بدين جدأ شعره طويل يرتدي سترةٌ جلدية كبُلغار الستينيات يسحب البطاقة الإلكترونية من هاتفه بعد كل مكالمة مُختصرة دوما مع سائق السيارة الأولى. وإلى الأمام باتجاه بنغازي ينتابنا الشعور دوما بأننا في مكوك فضائي لننطلق صوب كوكب مجهول باستثناء ...نعم باستئناء اختلاف آخر كبير مع الرحلة السابقة، وبحضور علي ومنصور الودودين الاْريحَيينَ لم تعد لدينا مشكلة لّغة وعاملتّنا السلطات مُعاملة طبيعية في كل مرحلةٍ من هذه الطريق التي تكوّن لدينا انطباع بفضلهما أننا نُعيد اكتشافها من جديد بعينيهما، أؤكٌد على كلمة بعينّيها؛ لأنَ ثمّة هذه الحقيقة الأخرى المؤثّرة بصورة خارقة التي جعلتهما يُكرّران عدّة مرّات، ولم أصدّقهما في البداية إلا بصعوية ولستٌ واثقاً من أنني فهمت؛ لكن هذا حقّاً ما كان هو لا يُصدّق ولكنه صحيح: ترك منصور ليبيا سنة 1969 وتركها علي سنة 1980. وهذه هي المرّة الأولى التي يعودان فيها الأول بعد أربعين عامأ والثاني بعد ثلاثين إلى هذا البلّد العزيز الذي ظنًا أنهما لن يرياه أبداً. يا له من شعور مؤثّر أن أكون أداة هذه العّودة ووكيلها والشاهد عليها وأن أكون الإنسان الذي من خلاله التقى أصدقائي بذويهم من جديد!

عشاء القبائل منصور وعلي لم يخسرا الوقت. أنا مُتأكٌد تقريباً أنهما رتبا الأمر من باريس وليس كما يحاولان أن يجعلاني أعتقد بلباقة خالصة، حتى لا أَبالِغ في شُكرهما بأنها فعلا ذلك هنا منذ كنًا في تيبستي التي وصلنا إليها في مُنتصف فترة العصر. لكن يا له من أداء عالي المستوى على كل حال! فمع عِلمهما أن إحدى كبرى المشكلات التي تُنيخ بثقلها على صورة التمرّد هي قضية الانقسام القبَليّ وأنْ واحداً من الأهداف الأساسية لسفرتي الجديدة محاولة أن أرى هذه القضية بوضوح أكثر أكثر قليلاً نظّما بدءاً من هذا المساء في مكان بين بنغازي واجدابيا قمّة غير رسميّة لرؤساء قبائل ليبيا. لا أعرف أين نحن... أخذنا المخرّج الغربي لبنغازي، قطعنا في السيارة حوالي ثلاثين كيلومتراً أوّلاً على الطريق الرئيسة؛ ّثم على طرق فرعيّة. لكن رُبّما لأنني كنت أقول لنفسي كما أفعل غالبا سيكون لدي الوقت لأستعلم في ما بعد وربما أيضاً لأن علي ومنصور لأسباب أمنيّة لا يرغبان في أن أعرف إلى أين نحن ذاهبون ويتهرّبان من الإجابة عن أسئلتي وربما لأنهما لا يعرفان، هما أيضا وأخيرا ربما لأنني متشبع بالمعلومات ولم أعد أستطيع استيعاب المزيد والحقيقة أنني وصلت إلى المكان وعلمتٌ في الحال أننا مدعوون من طرف الدكتور الميهوب عضو المجلس الوطني الانتقالي ورئيس مجلس الحكماء والأعيان ‏ ولا شيء أكثر من ذلك. كانت حوالى مائة سيّارة بك آب تركن أمام بوّابة المزرعة حيث توقّفنا، وحولها يقف ثلاثة أضعافها من الرجال المسلّحِين ‏ وأُخمن أن كثيرين غيرهم يكمنون في الأدغال. عندما تَخطّينا البوّابة على مدخل المبنى الرئيس وهو سُرادقٌ هائل سميك الجدران المطلية بالجبس كان في انتظارنا اثنان وثلاثون زعيم قبيلة أو تمثِل قبيلة يقفون مصفوفين بحسب بروتوكول خمنتّه لكني لم أستطع فك رموزه؛ تُضيئهم من أسفل إلى أعلى فوانيس موضوعة على الأرض بعضهم يرتدي لباساً على الطريقة الغربية وأغلبهم باللباس التقليدي سترة مُطرّزة وفرو على الكتفّين وغندورة بيضاء وذهبية وقفطان كشميري أو معاطف من جلد الثعلب وشاش مُزركش على الرأس وأسلحة للعرض في الحزام وعصيّ خشبية منحوتة.. حييناهم واحدا واحدا... هنا كل رؤساء قبائل برقة من دون استثناء، وأكثر مُمثلي القبائل الأخرى خرجوا سِرّا من فرّانَ أو من مدينة طرابلس. سلّمنا عليهم واحداً واحدا اثنتان وثلاثون قبضة يد عددئتها قبل أن ندخل معاً في مستودع التبن ونخلّع أحذيتنا وصنادلنا معأ واتّخْذنا معا أماكننا على طول الجدران حيث مدت سجاجيد؛ وحُصر من قصب ووضعت مقاعد واطئة جداً تُعلي الرُكب وتكسر القامات ومساند من صوف أو مُفضضِة وأغطية. سوف نتعشّى على الأرض من دون ملاعق وشُوّكُ ‏ فثمة قصعة ضخمة من لحم الخروف تُقطّعه باليد ونجعله في كراتٍ مختلطة بكتل من الرُزّ المتشرب بالدّهن اللذيذ الذي يؤخذ من صحنٍ مجاور. لكنّ الجوهريّ قبل العشاء الذي لم يكن سوى التمهيد إن هو حفلٌ الخطابات.. ليست الكلمة قوية جداً مادام كل واحلٍ سيمنح بأسلوبه الخاصٌ أفكاره الرصانة المطلوبة. اكتفى بعضهم بتحية مُقَتَضِبَة للأصدقاء الفرنسيين الزائرين. وبعضهم كموفّد الجبل الأخضر يخطب كما في المسرح مادحاً موقف فرنسا الذي سوف يبقى في الذاكرة حتى نهاية الأزمان. وصرّح رئيس القبيلة التي تبسط نفوذّها على منطقة طبرق: "ثمّة جدلٌ في بعض البلدان الإسلامية، بين السّنَةَ والشيعة وهنا نحن مُتَحِدون في شعور مُزدوج ‏ بُغض التطرّف وحبٌّ فرنسا من الآن وصاعداً". أما موفد مصراتة الذي هو من النادرين الذين يرتدون اللباس المدني؛ والذي حكى أنه وصل عشيّة أمس في سيارة فيري ناقلاً جرحى وباحثاً عن الدواء والأسلحة؛ فقد كلّفنا بنقل رسالة هي: "حين سيصير شعب ليبيا حرا بعون الله لن ينسى ما فعلتموه؛ نحن شعب قليل العدد. لكنه يملك إحساس العرفان بالجميل". وأطلق عبد السلام شريف الموفد الآخر من مصراتة بصوتٍ مبحوح نتيجة الانفعال نداءً لمساعدة مدينته مثلما ساعدنا بنغازي وأنهى خطابه بالبكاء. وشرح شاب يُمثّل قبيلة المقارحة التي تهيمن على مدينة طرابلس وتتحالف مع قبيلة القذافي أنْ قبيلته تتحرّك؛ وأنها تتخلى عن تأييد "القائد" شيئاً فشيئا والدليل على ذلك حضوره هنا. وكان هناك أيضاً ممثل عن قبيلة القذاذفة قبيلة "القائد" الذي وقف يهتف مُرحباً بحماسة حتى قبل أن ينطق بكلمة. وكان أيضاً مندوب قبيلة ورفله في برقة التي شرح لي منصور أنها كانت دوماً مُواليّة للقذّافي. أمَا المندوب الثالث القادم من مصراتة الأشقر بوجهه المكتنز وشاله ذي اللون الخبازي: وسترته الذهبية المطرّزة فصرح قائلاً: "نحن بلد متكوّن من قبائل؛ لكنّ قبائلنا متمسّكة بالوحدة الوطنية ولن يقبل أحد بتحطيم هذه الوحدة. وعرف مندوب اجدابيا الذي يرتدي غندورة من الخام الأبيض معقودة عل شكل توغا فوقها سترة سوداء أننا سوف نزور مدينته فشكرنا بامتنان فائض. وها هو شريف ابن عمّ منصور الذي تعرّفت عليه قبل قليل في تيبستي في رُكنٍ من البار حيث كان السيد غوقة ينتظر أن أنهي مكالمتي الهاتفية مع ساركوزي: كان يرتدي طقما رمادياً داكا يعطيه هيئة محام أو طبيب صعب علي أن أميزه هنا بعد ثلاث ساعات إذ كان يرتدي اللباس التقليدي كزعيم لقبيلة فزان ‏ كرّر قائلاً: لن يقبل أي ليبيّ أبداً بتقسيم البلّد؛ فكل الحاضرين هنا جاؤوا يشهدون على هذه الحقيقة، فصرخ الحاضرون بصوتٍ واحد هادرٍ بحرارة صوتٍ الحرب والنصر المُحقّق "ليبيا حرّة!" وها هو أيضاً ممُثّل مدينة الزاوية يقول: "الشعب الفرنسي جزء من ليبيا، كان الشعب الليبي ينتظر مُنْقِذاَ وهذا المنقذ هو فرنسا. أهلاً وسهلاً بكم أنتم إخوتنا". آو لو استطعتٌ أن أذكر هؤلاء "الفرسان" الليبيين جميعاً وأن أصِف طيبة وجوههم وهم يتحدّثون عن فرنسا ونظرتهم التي تصير مُثيرةٌ للشفقة حين يُذكر اسم القذّافي؛ لو استطعت أن أعكس كثافة هذه اللحظة حيث بدت لي فجأة تفاهة التصوّرات الفرنسية عن القبائلية الليبية. جاء دوري في الكلام. عبّرت عن شعوري وأقسمت بأنني حال عودتي سأنقل بصدق حقيقة ما سمعته تواً وسمحت لنفسي في النهاية أن أقترح هذا الاقتراح: "ما دُمنا مجتمعين وما دام الوقت مُناسباً يسهّل علينا تنفيذ الأمر حالأ سنكتبُ معا على زاوية هذه الصينية التي سأجعلها مكتبا بياناً من أجل ليبيا الموحّدة التي تهتفون باسمها فهذه هي بالضبط الرسالة التي يجب أن يسمعها الغرب... لم أكد أنهي كلامي حتى هبّ الجميع واقفا وكانت قامات الأكبر سنا مُعوّجة قليلا وكادت لفة ممثل ورفلة تقع عن رأسه. هبوا وأطلقوا تحت قُبّة السرادق هُتافاً جديداً مُرعِداً "ليبيا حرّة" وردّدوها عدّة مرّاتِ بصوت يُشيه صرخة الحرب وصيحة الفرح. طلب الدكتور الميهوب من الجميع أن يصمّت. وعانق هؤلاء الأجانب الغربيين الذين يجعلون من أنفسهم أقلام هذا المجلس الحربي الذي لا يعرفون عنه شيئاً، وها نحن من جديد نشرع في العمّل: أنا وجيل في دور الكاتب وإلى جانبنا منصور وعلي والدكتور الميهوب بينما تتجمهر الجماعة حول ضيوفها مستغربة من ديوان قصائد آراغون الذي كان في جيبي إذ أخرجته وسوّدتٌ صفحة الوقاية: وبعد نصف ساعة صار لدينا نصّ فعاد كلّ إلى مكانه ورحت أقرأً. قلت: ‎"يُمكن أن يكون عنوان هذا البيان "قبائل ليبيا كلّها قبيلةٌ واحدة". عمّت القاعة دمدمة الموافقة. والنصٌ تركيب الكلمات التي هي كلماتكم ونحن نُسجّلها. حل صمتٌ. وتكاثفتٍ النظرات. "نحن رؤساء قبائل ليبيا أو ممثّليها اجتمعنا اليوم في بنغازي؛ حول الدكتور الميهوب عضو المجلس الوطني الانتقالي. وأمام التهديدات التي تترّبص بوحدة بلّدنا وأمام مُناورات الدكتاتور وعائلته وآلتهما الدعائية نعلِن الآتي رسميا: لاشي يستطيع تفريقنا، فنحن نتقاسم المثل الأعلى نفسه وهو ليبيا الحرّة؛ الديمقراطية الموحدة. لاشكٌ في أن لكل ليبي أصلاً في هذه القبيلة أو تلك. لكنّه يملك كامل الحقٌّ في أن يُقيم علاقات عائلية وصداقة؛ وجوار وأخوّة مع أيّ عضو من أيّة قبيلة، فنحن الليبيين تُكوّن قبيلة واحدة: قبيلة الليبيّين الأحرار المكافحين ضِدّ الاضطهاد وروح التفرقة. الدكتاتور هو الذي كان يُفرّق القبائل بتأليب بعضها على بعضها الآخر كي يتمكن من الهيمنة عليها، ولا شيء من الحقيقة في أسطورة الخصومة بين الأسلاف التي أججها وفي التصدّع الراهن بين قبائل فزان وقبائل برقة وطرابلس. وبعد رحيل الطاغية ستكون ليبيا الغد موحّدة» عاصمتّها طرابلس حيث سنمتلك؛ في النهاية حرية تكوين مجتمع مدني كما نريد ونتمنّى، ونحن نستغل هذه الرسالة التي نبلّغها لفيلسوف فرنسي وفيها نشكر فرنسا ومن خلالها نشكر أوروبا: فهما اللتان منعّتا حصول المجزرة التي هددنا بها القذّافي وبفضلهما ومعهما سوف نبني لينيا الغد الحرّة الموحدة." كان منصور يُترجم ما أقرأ جملةً إِثر جملة. وفي نهاية القراءة نهض الجميع واقتربوا من دون تصفيق حادٌ هذه المرّة يبصمون على التوالي تواقيعهم على ما بقي في الورقة من بياض ثم على ظهرها. أخذ الدكتور الميهوبي الورقة. وقال إنّه سيسعى بكلّ الوسائل ليجمع تواقيع أخرى. تواقيع آخرين كثيرين. تواقيع رؤساء القبائل أو ممثَليها من الغائبين كلها إذا أمكن أو على الأقل قبائل طرابلس، وسوف يُرسل لنا مجموع التواقيع إلى باريس كي ننشرها. لا يعرف بعد متى وكيف لكنّه سيجدهما.

نحو اتفافية دايتون ليبية تناولنا الفطور في تيبستي مع كريس ستيفنز سفير الولايات المتحدة أعتقد أن صفته مبعوث أو ممثل أعلى. هو شابٌ أنيق ابتسامة ناصعة يغلب عليه طابع الساحل الغربي لكن أفضل ما فيه أي طابع سان فرانسيسكو. كان في ما يبدو لي في فندق ويستين في باريس الشاهد الوحيد على اللقاء بين جبريل ‏ الهائج وهيلاري ‏ اللّغز. تبادلنا أحاديث عادية. إنها طريقة الدبلوماسيين في ألا يقولوا شيئاً لكنّهم يحاولون أن يحصلوا على المعلومات من دون أن يبدو عليهم ذلك بوضوح. لست أدري لماذا شرعنا في لحظة معيّنة في التحدّث عن ريتشارد هولبروك عن وده المعتاد. عن لقائي الأخير به في تبليسي آخر يوم في حرب بوتين وميدفيديف ضدّ ساكشفيلي واللقاء السابق في باريس عند السفير هارييان عشية قصف سراييفو. وأخيراً دايتون الذي كان واحداً من المهندسين المعماريين: وهو في نظري اتفاق لعين. قال وهو يكشف نفسه لأوّل مرّة: "هل تظنٌ؟ لا أعرف...على الأقل كانت النيّة حسنة.." قلت باختصار: رُبما. لكنّ هذا حل يستسهل الأمور جحيم التسويات. إِنّه على كل حال موت البوسنة الجامعة؛ مُتعدّدة الأعراق التي كانت البلّد الذي جئنا لإنقاذه. بإمكاني أن أشهد عل حُزن بيغوفيتش اُجبَر على أن يُوافق على هذا الاتفاق الرديء؛ والمسدّس الأميركي على صدغه ‏ كان على وشك الانتصار فأرغم بتطرّف وباسم حسابات جيوسياسية مؤسفة على أن يرتدي لباس المهزوم.... وفجأة قال وقد استولى عليه بعض الارتياب: "لكنْ لماذا تَحدَّثني عن دايتون؟ هل تعتقد أن هذا النوع من الحلول مُناسب في ليبيا...؟" وقال وهو يرسم ابتسامة ذئب على وجهٍ برونزي لدبلوماسيّ شاب واعد ‏ ويُخاطر بإظهار ثغرة صغيرة في سريرته: "لم لا ألم تكن ليبيا إذا فكدرت فيها جيدا هي دوماً ليبيا. كان فيها دوماً جانبان بل ثلاثة مع قبائل فزان والشركات البترولية هي التي حسمت الأمر في لحظة مُعينة وعملت لترتاح ولكي لا يكون لها إلا شريك واحد تتفاوض معه على أن يكون البلد مُوحداً. أما اليوم...فقد تغيّر العالم كثيرا ...أو لا يُمكن أن تعتبر شركات بترولية أخرى ها نفس المصالح أن ليبيا مقسمة إلى دولتين أفضل من ليبيا موحدة أو على الأقل مثلها.." لا أعرف إن كانت هذه فكرة عابرة أم أمنيّة. وجهة نظره الشخصية أم وجهة نظر إدارته. تحليل حقيقي أم بالون اختبار يُطلِقه لأنه يرفض أن يتحدّث في الموضوع أكثر من ذلك.. للبحث صلّة.

السبت 9 نيسان/أبريل: تتمّة (المجلس الوطني الانتقالي؛ منْ هو مَن؟( موعد مع عبد الجليل. لأسباب أمنيّة؛ لم يعد في تيبستي ولا على الكورنيش بل في فندق الفاضل غرب المدينة ‏ مظهر مُزيّف لفندق عطلة ومرمر ينم عن ذوق القذافي الحقيقي وحلقة من الرسميين وشبه الرسميين وقليل من المراسم.. سفيرا فرنسا وبريطانيا يصلان على أعقابنا ومُلحق بالطابق الأرضي يُساوم عليه علي وزيدان كي ننتظر بهدوء وصول عبد الجليل ونجري خلال فترة الانتظار مُقابلات أخرى. لأني صمّمتٌ أن أستغل هذه السّفرة الثانية ساعياً كي أرى بأكبر قِدْرٍ من الوضوح هذا المجلس الوطني الانتقالي المشهور الذي يُثير في أوروبا الانتقادات والشكوك. فلأسباب أمنية واضحة:؛ لم نستطع أن ننشر أسماء أعضائه المنحدرين من المدن التي ما تزال تحت سيطرة القذّافي هذا أمرٌ مشبوه... ومثير للريبة إلى درجة عالية... وبما يكفي على كل حال؛ لكي نرى هذا المجلس كجمعية سريّة ذات بنية مُبهَمة وأهداف خفيّة.. رُبما تكون فرنسا قد تسرّعت جداً في جعلها ممثّلة رسمية للشعب الليبي...فكيف تُفهم الناس أنّ هذه الأوهام عبثيّة؟ وأنَّ المجلس الوطني الانتقالي ليس أنفار الخمير الحُمر ولا حتى جبهة التحرير الوطنية الجزائرية؟ وأنْ أعضاءه مع بعض التحفّظ مرّة أخر ى أي ممثْل اجدابيا والكفرة وغات ونالوط ومصراطة. والزنتان والزاوية وبني وليد وغيرها من المدن الرازحة تحت البوط معروفون تماماً؟ وأنهم يعيشون غير مُتسترين؟ وأن نتمكن من الحديث إليهم إن أردنا وأن نجعلهم يتحدثون؛ ويحكون رؤيتهم عن العالم وتاريخهم؟ حسناً فلْنفعّل هذا، ولنحاول تقديم المثّل بالذهاب فعلاً للقائهم؛ حتى لو كان ذلك مُنفراً بعض الشيء. هذا ما بدأتُ في فعله أمس في فندق تيبستي إذ أجريتٌ مُقابلة مع عثمان سليمان المقراحي (مْثّل منطقة بوطان) وفتحي محمّد البعجة (أحد ممثلي بنغازي) وقرّرتٌ استغلال نهار اليوم لرؤية الأعضاء السبعة الذين لم أتعرّف عليهم بعد (ومن المفروغ منه أنني لم أتآخر كثيرأ بحسب ما أرى؛ عن عبد الجليل وغوقة ‏ وطبعاً عن جبريل والعيساوي والرجال الذين التقوا بساركوزي لكنّهم ليسوا أعضاء في المجلس. علي هو الذي أتى بهم إليّ. ويجب القول إِنَهِ هيّأهم لي. فحالما يرى واحداً منهم في بهو الفندق الجديد: يصير نقطة ارتباط حيث يبدو أنه يعرف كل الناس وهذا غريب بالنسبة لإنسان قضى ثلاثين عاماً في المنفى: وهكذا يوقف الشخص وينعطف به فوراً بالقول من هنا إذا سمحت ثمة كاتب فرنسي ومعه مُصور ومع هذا نفسه مُصور آخر الخ. هكذا قابلتٌ عاشور حامد بورشيد من درنة؛ بوجهه الجميل النحيل الذي يجعله يُشبه روجيه فايان. حدّثته عن عبد الحكيم الحصادي ابن درنة الذي لم أستطع رؤيته لكنّ سمعتّه سيئة جداً. فهل يعلّم؟ هل أخبروه بهذه المقالات المنشورة في الصحافة الفرنسية (سارا دائييل في النوفيل أوبسرفاتور): والصحافة الإيطالية (جريدة 056 ilsol24 اليومية الخاصة بأرباب العمل) والتي تتهمه بأنه قريب من القاعدة؟ قال لي إِنّه يعرف هذا الرجل معرفة عاديّة. ولكِن إذا كان باسم أنه فعلاً مُسلِم تقيّ جدا قد أَغْرِيَ منذ عدة سنوات بشكل من أشكال الأصولي فأوّلاً لا علاقة لهذا بالقاعدة وثانياً هو مؤيّد للمجلس الوطني الانتقالي وهو مُنضبط وثالثاً يُمثّل أقلية في درنة وأغلبية الشعب تجِد فيه نفسّها عاشور حامد بو رشيد شخصية علمانية في المدينة ومحَامٍ مُتخصّص في الحقوق البحرية والمشكلات البيئية.. والباقي كله إشاعات وسوء نيّة. وأحمد الزهير السنوسي. وعمره سبعة وسبعون عام وهو من أحفاد الملك إدريس الذي انقلب عليه القذَّافي محكوم بالسجن ثلاثين سنة قال لي ببينة مُكتئبة إلى أبعد الحدود: أنا أقدم سجين سيامي في ليبيا... الأقدم هو الذي بقي أطول مُدّة محبوسا والأكبر سنا أيضاً... وهو مسؤول في المجلس الوطني بطبيعة الحال عن ملف السجناء السياسيين. وهذا ملفٌ ضخم نوعاً ما يتضمّن من العائلات ما يكفي ليستحقٌ وزارة كاملة. وعمر حريري وعمره سبعة وستّون عاما وهو جندي قديم آخر من جنود ثورة 1969 عسكري كان بدوره سجيناً إلى وقت قريب وهو اليوم مسؤول عن قضايا الدفاع في المجلس علماني شعبيته عالية جداً في أوساط الثوّار الشباب وهو من قبيلة الفرجان المهيمنة في منطقة سرت. وأحمد ربوع العبر ممثل آخر لبنغازي رجل أعمال تربطه علاقات تاريخية بعائلة السنوسي الملكيّة مُكلّف بالشؤون الاقتصادية عِلاني. وفتحي تربل سلوى؛ هذا المحامي ذو الثانية والثلاثين عاما الذكيّ. العصريّ الذي اهتمٌ بالسياسة إثر رؤيته سنة 1986 صورة المشنوقين في بنغازي أولئك الطلاب الذي كان ذنّبهم الوحيد أنهم طالبوا ببعض الحقوق وأخذوا على عاتقهم الدفاع عن عائلات المفقودين في سجن أبو سليم في طرابلس حيث أعدمتهم شرطة القذّافي بعد عشر سنوات كما روى لي محام آخر جاء يراني في تيبستي أوّل مساء. وعددهم 1200 سجيناً لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق كانوا فقط من بنغازي حيث كانت تنطلق في اللحظة الأولى بداية ثورة شعبية.. فتحي تربل بوجهه اُلمراهِق الذي أصبح رمز الحركة الثورية في 15 شباط/ فبراير عندما ارتكبت شرطة الديكتاتور حماقة اقتحام مكتبه وتوقيفه هو المسؤول عن الشباب في المجلس. وعلي الترهوني أفضل الاقتصاديين في المجموعة وهو وزير الاقتصاد فيها الرجُل المكلف بِسَكٌ العُملة وبترحيل الصادرات البترولية من ميناء طبرق: هو مُعارِض تاريخي أيضاً منفي منذ عام 1973 حين كان في الثالثة والعشرين من عمره ومحكوم بالإعدام غيابيا درس في جامعة ميشيغان ثم في المدرسة العليا للتجارة في جامعة واشنطن. والتقيتٌ إمرأة اسمها سلمى فوزي الدغالي طالبة قديمة في باريس وأستاذة قديمة وهي المرأة الوحيدة في المجلس لكنها مُكلّفة بثلاثة بل بأربعة مجالات من المهمّات: شؤون النساء والقضايا القانونية والأعمال التحضيرية لكتابة الدستور الجديد وبدءاً من هذا التاريخ تحضير ملف الإثبات ضدّ القذّافي استعداداً لليوم الذي سوف تُقَرّر فيه المحكمة الجنائية الدولية إدانته. وأخيراً التقيتٌ ممُثّل منطقة القَبّة المنحدر من قبيلة العبيدات؛ إحدى أكير القبائل الليبية لأنها تمد من سالوم إلى البيضاء وهو الرجل الذي التقيت به أمس مساء. القوّة التي دعت إلى عشاء رؤساء القبائل الدكتور الميهوبي الذي يحكي لي هذه المرّة قصّته الشخصية وكيف أن القذّافي يُضمِر له منذ ثلاثين عاما حقداً شخصياً غريباً: طُّرد من الجامعة حيث كان أستاذاً قبل أن يصير عميداً للكليّة ومُنِع من التدريس بكل مستوياته؛ ودعي إحدى عشرة مرّة إلى طرابلس من أجل لقاءات مُضحكة حيث كان القائد يحاول طيلة الليالي أن يقنعه بتبّني «النظرية الثالثة» وحيث كان يرفضها مُعانداً؛ بحجّة أنه يعدّها مُتشربة بالبرودونية وفرضت عليه الإقامة الجبريّة في مدينته الأصلية القَبّه في قلب الجبل الأخضر وقد نجا بالعودة إلى حياة الرّعاة البسيطة؛ حياة أجداده: وهنا في شهر شباط/ فبراير أتى مبعوثون من القبائل البدوية يبحثون عنه؛ كشاوول الملِك أو جدعون ليتوسلّوا إليه كي يكون ملكهم أو على الأقل ممثلهِم في المجلس الانتقالي الذي تتشكل معالمه حيث سيُكلّف بمهمّة في مجال تنسيق الجبهة الوطنية الداخلية وبعبارة أخرى بمهمة الوحدة الوطنية والحوار بين القبائل. ‏ لا أدّعي أنني أجريتٌ مع كل واحدٍ منهم أحاديث كاملة؛ لكنّ لديّ عددا لا بأس به منها وقد جمعت ما يكفي من القصص يمكنني من القول: 1 تسمية هؤلاء الناس تمت في نهاية عملية غير ديمقراطية كليّا لكن من الصعب إنكار أنها تمت انطلاقاً من القاعدة ‏ قاعدة القبائل والعشائر المتحدة على مستوى القُرى والمدن، والمدن الكبرى قبل أن يُعيّنوا بالإجماع؛ في أغلب الأحيان ذاك أو تلك ممّن ترى الجمعية الأكثر عددا التي تجتمع في ميدان. أنه أو أنها الأكثر حكمةٌ. 2. التشكيل النهائي للمجلس يشهد إجمالاً على بعض النضوج السياسي؛ لأنّه حقق المهمّة الصعبة في أن يُمثّل فيه كل القبائل وكذلك كل المناطق وكل الفئات الاجتماعية والمهنيّة في ليبيا بالإضافة إلى الطيف الكامل تقريباً للحساسيات الروحية والسياسية ‏ ما خملا الاستثناء البارز وهذا هام جداً طبعا ألا وهو "الإسلام الأصولي" الذي بدأت الصحافة الأوروبية بنصب فزّاعته ولكنّي حتى الآن لم أجد له أثراً. 3. إن كان بينهم حتى في قمّة المؤسّسة بعض الذين كانوا من جماعة القذَّافي وتابوا فأغلبيتهم مُعارضون تاريخيون مُكوّنون في مدرسة السجن تعلّموا تحت الضرب والتعذيب معنى حقوق الإنسان؛ والديمقراطية ‏وأكثرُهم خريجو حقوق ومثقّفون وأَحِبُ فكرة شعب بدوي يختار لكي يتجسّد أساتذة جامعات. على أيّة حال سأتوقّف هنا. ففي مُنتصّف مُقابلتي الأخيرة جاء مَن يقول لي إن الرئيس عبد الجليل وصل من البيضاء وقد رأى السفيرين الفرنسي والإنكليزي وهو في انتظارنا. يتواصل

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح6
الأحد, 14 فبراير 2021 22:07

الثلاثاء 22 آذار/مارس (الخصومة مع جوبيه وأسبابها)

وزير الخارجية الآخر سبّق أن خدعوني منذ خمسة عشر عاما إبَانَ حرب البوسنة. هذا يُرهن, على الأقل ثبات الصحافة. وكذلك ثبات ردود أفعالي أمام المواقف المُشتركة أكثر مما كان يبدو "عبد الجليل يقوم بِدَوْرِ بيغوفيتش وساركوزي بدّور ميتران وليفيت بدّور فيدرين وجوبيه بدور رولان دوما...". المشكلة الوحيدة أنني بقدر ما كنت أزدري دوما في تلك الفترة كنت أكره صلفه. والجانب الذي يُشبه فيه "تاليران" لكن من دون موهبته؛ وأحتقر أساليبه في إظهار بل آمي المسن يشكُ قرنفلة في عُروة سترته. وأنّ طريقته في التطفّل ترقى إلى مستوى واحد من الفنون الجميلة وانحناءات التحية وبقدر ما تُنفّرني حياته عديمة الكرامة التي يعرف الناس جميعاً أنه جدلها قشَّة قشَّةء مع رذائل مُعاصريه؛ ليس عندي شيء ضدّ جويّيه. لست مُتزمتاً إزاء المسؤولين السياسيّين بصدق؛ وحين أرى الحمقى مفتونين بوزير الخارجية العظيم الذي منحتهم إِيَاه العناية الإلهية وفي واقع الحال ساركوزي وحين أسمعهم يتنهدون بارتياح لفكرة هذا «الُمحترف» الذي جاء بعد ذاك «السطحي» الذي كانه كوشنر لا أستطيع أن أمتنع عن التفكير بأنه كان كذلك وهو وزير وأنْ هذا الوزير نفسه الذي شغل المنتصِب نفسه؛ ساعة هذين الموعدّين اللذين مَنْحَهما تاريخ مُنتصّف القرن لِبلدنا وأنّه في كلتا الحالّين أساء التصرّف: عدّم التدخل في البوسنة وحماية الهوتو مُرتكبي القتل الجماعي في رواندا ومُساعدتهم على العودة. لكن بالّقابل لم يكن لي مع الرجل مشكلة أبداً. حتى إنه أحتفظ بذكرى لقاءاتنا في بوردو لطيفة وديّة تقريبًا تنطوي أحياناً على تواطؤ صامت. كان آخرها بمناسية مؤتمر نظمته جريدة ليبيراسيون.وعلى أيّة حال بدا لي الرجل على الدوام محترما صلب الرأي نزيها وهذا ما قلته قبل خمس أو ست سنوات خلال فترة مُلاحقته القضائية في قضية الوظائف الوهميّة حيث ادّعت جامعة كندية أنَّها استقت حجّة منها لمنعه من التدريس فيها (فدافعتٌ عنه وحدي تقريبأ في واحدة من مقالاتي في مجلة لبوينه ضدّ المتكالبين عليه). هذا كلّه لأقول إنّ تفادي جوبّيه وإزعاجه وفكرة رؤيته يصدّق كل شيء كان يحضره له ساركوزي وأصير أنا مُتعهّدا ذلك مُباشرة أو بشكل غير مُباشر قد يكون وهماً من أوهام جوبّيه أو حتى من أوهام ساركوزي لكنه ليس على الإطلاق وهمي وهذا لا يروق لي في شيء. علي كي أكون صادقاً تماماً أن أقول طبعاً إن هناك أسباباً لحذّر جوبّيه. على الأقلّ سبب واحد حتى لو كان سوء تفاهّم هائل ويبعث على الضحك في النهاية. كيف أَعبّر عن هذا؟ نحن في احتدام الحرب في البوسنة. لم نتوقّف منذ سنتين عن تبادّل الشتائم. نتناول الغداء على انفراد في وزارة الخارجية؛ ونتساءل حول الموضوع: «الوقوف ضد الصرب حقّ لكن يجب على الأقل التصرّف بشكل مُناسب من دون خِسّة تصوّف رجال شرف وعقل، محَاولين أن نتبادل المعلومات حين تتوفّر الإمكانية حين يجب منح تأشيرة دخول لجريح حالته خطيرة وتقديم منحة لمثقف أو لفنّان من البوسنة». يبدأ الغداء بوقار ويستمر بلباقة وينتهي غالبا حين يهدّئ كل منًا الأمور في اكتشاف الآخر وفي اللطف الذي لا يُقَاوّم، جانب "كيف‏ استطعنا أن نغفل خلال هذه المدّة الطويلة أن...الخ". كنا نقول: هذه المرّة سنبقى على اتصال، ونكمل القول: سيكون هذا كخطٌ  ساخن. وكنًا نختم بالقول: هل يُمكن أن توفّر الظروف؛ بسرعة فائقة فرصة لرئيس الدبلوماسية الفرنسية؛ ولرئيس الحزب البوسني في فرنسا ليُظهرا أن خلافهما لا ينفي الاحترام والحوار. بعد الغداء أحدنا يدفع هم الاحترام والحوار حتى يُرافق الثاني إلى أسفل السّلَّم الكبير. وما كدت أركب سيّارتي حتى اتصل بي بمحض المصادفة جيروم كليهان حيث كان حينئذ رئيس "آرتيه" ومن جهة أخرى صديق مُقرّبٍ من صديقي الجديد: "حادث سيء. مؤتمرنا الكبير اُّلمقرّر انعقاده يوم السبت... بالادور الذي كان سيفتحه اعتذر قبل قليل... يجب أن نجد فكرة خلال فترة بعد الظهر لنرى من يحل محله..." قلت له: عندي فكرة... خرجتٌ توا من مكتبه... كان بيننا حتى اليوم سوء تفاهم... لكننا قرّرنا أن نتبادل الثقة في ما بيننا وأن نختصم في جوٌ من الإخلاص ونحتفظ بخطّ ساخن بينناء ونجد بسرعة كبيرة فرصة نبرهن فيها أننا قد نكون خصمَّين من دون أن نتعامل مع ذلك تعامّل الكلاب... إِنّه ألان جوبّيه! أجابني بضيق مخبوء: لا معنى لهذا. إذ لا نستطيع أن نتصل بجوبّيه هكذا يوم الأربعاء ليأتي يوم السبت... هذا عبّث... دَعْني أحاول... لا ندري... وكأنّما انطلق تحدٌ... إذا كان الرجل جيّداً بالقدر الذي قُلتّه لي دومآ وإذا كان وفيّأ ويمتلك حِسّ الشرف. والالتزام بكلمته فأنا مُتأكّد من أنّه سيبذل قُصارى جهده لِيُعطيني العربون... عل أن أتصرّف... الفعل أردّف القول. جوبّيه الذي وصلوني به فوراً مشغول. لكّن جوبّيه تحرّر من أشغاله كما توقعت. قال لي: ما تطلبه مني عُربون صداقة. علما بأنني مشغول جدأ وعندي برنامج عمل هائل في بوردو سيتحتّم علي إلغاؤه. لكنْ قيل لي أن آتي إذاً سأفعل. أنا موافق. جاء يوم المؤتمر. لم أعد أعرف موضوعه لكنْ لما كنا في قلب الحرب في البوسئة وكنتٌ أنا مع جيروم. رئيسّه وجب أن أجد وسيلة لإدراج البوسنة في برنامج المؤتمر وحتى لو لم أفعل. حتى لو أنه بالضبط واحد من هذه المؤتمرات السرمدية عن «أورويا والثقافة» لكان الناس فهِموه هكذا فالحقيقة أنني ميزت منذ دخولي الوجوه التي صارت. مُجبَرَة لتتآلف بلا قَيْدِ أو شرط مع القضية البوسنيّة كان مُدرّجٍ ريشيليو مليئاً إلى حدٌ أن كثيرين جلسوا على المقاعد؛ والدرّج والقواطع العرضية وفي الممرّات أو استندوا على حوافٌ النوافذ كما جلسوا على الأرض وعلى المنصات. مُعيقين الوصوء من أيّ مكان إلى الطاولة.. القاعة حارّة لاتعرف ماذا تنتظر لكنها تنتظر شيئاً. جاؤوا يوشوشوني في أذني بينما كنت أحاول إقناع الحجاب أن يُدخِلوا حوالى خمسين شخصاً آخرين: «وصل الوزير». «قلتٌ: آه! هذا رائع!». نظراً لأنه ضيفي الشخصء ونظراً للخط الساخن وعربون الصداقة والعلاقات الجديدة الخ. أوقفتٌ كل شيء لأذهب بنفسي وأستقبله هناك حيث يختبئ في الكواليس مُنتظراً دخوله الكبير. شققتٌ الجمهور في اتجاه مُعيّن وأعدتٌ شقّه من جديد في الاتّجاه الآخر برفقته. قُلتٌ: «عفوا عفوا» مُنتبهاً إلى ألا أدوس على البنات والصبيان الجالسين على الأرض الْمكوّمين بين الكواليس والمنصّة. سمعنا عندما دُسنا على قدّم أحدهم, أو على يده إذ لم يعرف كيف يركن: «إيه هنا أنتبه». لكنّه كان طفلاً لطيفاً مؤدّباً وإذا كانت هناك دمدمة ترافقت مع مرورنا فذلك من وقع المُفاجأة لا نتيجة عُدوانية أو احتجاج. باختصار كل شيءٍ على ما يُرام. نجحنا من كثرة التخطَّي (وطلب العفو والمعذرة». في الوصول إلى الطاولة حيث ينتظرنا جيروم. جلسنا وجلس الوزير في الوسط بينناء نحن الاثنين. تناولت مُكبّر الصوت لأشكر مَن جاؤوا بأعدادٍ كبيرة من رجال ونساء وخصوصاً يوم السبت! يا لها من بطولة ‏ ولكي أشكر شكراً خاصًا الوزير الذي على الرغم من انشغاله ومن خلافاتنا التي لا تخفى على أحد قبل أن يَفتتِح المؤتمر. باستثناء...أجل هناك شيء واحد...هو أنني تحسبت لكل شيء. وخيوط الموقف في يدي مع بعض التحفّظ. إِنْه جيل. صديقي جيل. رئيس الحزب البوسني الآخر في باريس. الشخص الآخر الذي يثق به الحزب البوسني كا يثق بي ثقةٌ عمياء. إذ تعلق في حلق جيل كما تعلق في حلقي كل المظالم التي استطاع جوبيه ارتكابها ليس بحقٌّنا بل بحقٌ البوسنة. وجيل الذي نسيتٌ أن أَنبّهه إلى التحوّل التكتيكي البسيط الذي جعلني أتصالح نصف تصالح مع جوبيه وأن جوبّيه قدّم لي كعلامة على حسن نيّته شرف قبول الدعوة التي وجهتها له حالاً. لمحتها في عُمق القاعة سلكن مُتأخراً جداً نظراً لانحسار بصري لمحت في الحقيقة في ما يُشبه الضباب؛ شبحاً طويلا يجلببه معطف أبيض غريب. وقبل أن أتمكّن من أن أقول أيّ شيء رأيتٌ الشبح ينتصب. شعرتُ أكثر مما رأيتٌ ذراعاً مُتهما يشير إلى المنصّة وسمعتٌ صوتاً جهيرأ سمعتٌ صوتاً ثأريّا صوتاً صارخاً كان في الواقع يُشبه الصوت الذي علا قبل ثلاثة أيام: "السيّد وزير الخارجية السيّد وزير الاستقالة الوطنية موتى البوسنة يوجهون لكم أجمل التحيّات." وحيث اعتقد الجمهور أن هذه إشارة وأننا توزّعْنا الأدوار بين خيّر وشرّير أنا مع جوبّيه وجيل ضِدٌ جوبّيه. انطلقت القاعة في عاصفة من الصياح والصّراخ وضرب الأرض بالأرجل والضجيج والصفير. أمّا جوبيه الذي كان يُراجع خطابه فنظر إلى جيروم بهيئة من عدم الفهم المشوب بالذهول ثم نظر إلي كأنه يُريد أن يقول: ألستما طبعاً سافِلَين إلى حدّ أن تنصبا لي هذا الفخ؟: واصفرٌ وجهه. وغمغمَ بعض الكليات التي غمرها الصَّخَّبُ وقبل أن أتمكن من الكلام ومن فعل أيّ شيء؛ نهض من مكانه مع جيروم: ومع الناس الذين كانوا جالسين قبل قليل والذين مضوا هذه المرّة ليلتحقوا بالضجيج وشقٌّ له طريقا بصعوبة بالغة حتى وصل إلى المخرّج. وحين صار في سيّارته سألّ كلييان: «من كان ذاك الأرعن؟ من كان ذاك الرجل ذو المعطف الأبيض الطويل ومن الذي أعطى إشارة الضجيج؟». فأجابه كليهان الذي لم يعرف أبداً أن يكذب. ولن يبدأ الآن بأن يتعلّم الكذب: إن جيل هرتزوق. هو صديق برنار المُفضّل بل هو باختصار قائده. لم تتوفر لنا أيّة فُرصة لنشرح الموقف ومنذ ذلك اليوم التاريخي تكوّنت لدى من هو الآن وزير الخارجية الفرنسي القناعة بأنني إن لم أكن الشيطان فأنا على الأقل مُغالٍ في السّفالة.

الخميس 2 آذار/مارس (وزارة الخارجية ...) "الحرب في ليبيا تتعقّد" أقرأ هذا في كل مكان. مع أُنها لم تبدأ إلا منذ عدّة أيّام. لكنّ الناس ملَّوا منها. إذ يجدون أنها طويلة جداً فالعصر مُتقَلّب وغير مُجْدِ إلى حدٌ أن حرباً تدوم أكثر من ثمانية أيام تبدو لهم بلا نهاية. إِئّها رتابة تثبيط العزائم إِنّه اعتياد الضعف هذه القضية الليبية كمُوح ممتاز في العُمق بالأفكار الأبدية لأصحاب الميول التّركيّة للبيتانيّين الفرنسيين. وفيما يخصني بدأت موسيقى خفيفة تتصاعد. ليس تماماً: الوزير مرّة أخرى الخ. لكن (متغيّر): لكنّ الرجُل بدبلوماسيّته المُوازية وبخطه المباشر مع الرئيس وتدخُلاته البربرية غير الُناسبة يلحق الضرر بمؤسّسة فرنسية كبرى بفّخرِنا بدُرّة تاجنا الجمهوريّ بهذه المعجزة التي يحسدنا عليها العالم وهو فوق ذلك يقوم با قام به كما بمحض المصادفة. أجل! أجل! هذا لا يُصدَّق ولكنّه صحيح في الوقت الذي كان يقوم به ليفي.. آوه يا لوزارة الخارجية! يا لصواعق الحرب! يا لفرط الخيال والجُرأة! يا لهؤْلاء المبصَرين الكبار الذين لم يتوقّفوا كما هو معروفٌ جيدا منذ عُقود عن أن يروا قدوم الثورات ويستبقوها ويدعموها! كانوا رائعين في البوسنة. يُثيرون الإعجاب في رواندا. وكانت سياستهم الإفريقية فريدة من نوعها. وهنا في ليبيا كانوا يُحضَّرون لنا رائعة فنية رائعتهم الفنيّة ضربة سياسية موفقة سريّة تماماً كانت ستذهل العالم لو لم أحبط عملهم. إن تصريح جوبّيه؛ من القاهرة حيث أكّد أنه لن يكون هناك تدخل عسكري؟ يا لَلخُّدعة! انقلبت سحنته عندما سمع من الصحفبّين وهو ينزل بالكاد من الطيّارة أن الرئيس ساركوزي اعترف قبل قليل بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل شرعي وحيد للشعب الليبي؟ يا للمهزلة! الدوران العكسي للساعات ثم للأيام التالية؟ أَهُوَ سوء تفاهّم! كانت وزارة الخارجية تُخفي لُعبتها. لَعِبتها سرا. الوزارة فذّة. أحب كثيراً هذه الطريقة في كتابة التاريخ. هذا المجلس الحربي الذي عُقِد أمس على ما يبدو في مكتب مدير في الوزارة حول موضوع: «الوضع الحالي ومهماتنا البديهيات التي من أجلها لا نستطيع الّمضيّ إلى الحرب والفجوات الدقيقة التي سنتمكن من أن نضع فيها عناصر لُغتنا». وهذه الاتصالات الهاتفية مع المراسل الدبلوماسي لمحاولة بيعهم بصعوبة ومشقة سيناريو بسيط دبّرته منذ زمن طويل وزارة الخارجية المتيقظة الواعية التي رأت كل شيء منذ البداية؛ وفهمت دوماً كل شيء: وكان لديها خطة ساخنة لقلب نظام القذّافي! فال لي جان ‏ بول انتوفن الذي يرقب كل شيء ليس بعين سيريوس: بل بعين الأدب الخالد: هذا في حدٌ ذاته ليس خطيراً. أو بالأحرى من حُسن الحظ أن ترى هؤلاء الخبراء الكبار الجامدين المعارضين وجودياً لأيّ تدخل يشعرون بالحاجة إلى القطار المُنطلق. هذا صحيح. مادام القطار لم يصل بعد وأنا الآن مَن يخاف أن أراهم يُعيقون هذه الالتفاتة الفرنسية الرائعة ويُدمّرونا ويمنعون وصولها إلى غايتها. يُضاف إلى هذا من جهة أخرى أننا لا نرى كل يوم كيف تعمل في المخبر حول حالةٍ هي من الوضوح بحيث تبدو صغيرة ونادراً ما نحتاط في أمرها أقدم آليّة لإعادةً كتابة التاريخ؛ ومشهد هذه المناورة هذا الفجور الأخرق في الطاقة الْموجّه لتوضيح ما لا يُوضّح هذا الاهتياج في كل الاتجاهات وعلى الجملة الاهتياج الصبيانيَ للناس الذين لا يتراجعون أمام أيّ شيء كي يُعيدوا كتابة التاريخ؛ أقول بصريح العبارة إن إعادة كتابة التاريخ ومشهد هذه المناورة نموذجيّان. جوهرتانٍ في الحرب ‏ جوهرتان صغيرتان إلى حدّ أنني لا أستطيع مقاومة لذة حجزهما: أولا قافلة المساعدات الطبيّة الْمكوّنة من أطبّاء ومُساندين وأدوات استشفاء القافلة التي وصلت إلى بنغازي مساء الثالث من آذار/ مارس وذهب كل الصحفيّين في المدينة لاستقبالها. فاستخدموا كل الوسائل وقالوا لأنفسهم كلما مر الزمن أكثره ضاعت مصداقية قضّيهم في ضباب أرشيف غير أكيد وبدأت حناجرٌ وزارة الخارجية تحكي أن رجال الدرك الفرنسيين كانوا يُرافقون القافلة (وهذا صحيح) وأن ر جال الدرك وعناصر القيادة العامة للأمن الخارجي الذين كانوا يُرافقونهم؛ كلّفوا بمهمّة أن يتَصِلوا "بحسب الأصول" ‏ وأن يتابعوا بنظرهم ... المجلس الوطني الانتقالي (وفي هذا بعض التهريج نظرا لان المجلس الوطني لم يتشكل إلآ في الخامس من الشهر أي أنه لم يكن موجوداً في اللحظة المذكورة!(. وهناك على الأخص الخبر الغريب الذي ظهر في رسالة سريّة تسمّى ب "الرسالة" بعنوان من نوع "كاد برنار ‏هنري ليفي يموت في بنغازي كان من الْمكِن توقيفي عل الكورنيش على أنني «عميل إسرائيلي». وحين كان الثوّار الشباب على وشك ضَرْبي ما كنت نجوتٌ لولا التدخل اليقظ لعناصر القيادة العامة للأمن الخارجي الذين لأشكٌ في أنهم هم أنفسهم الذين رافقوا قافلة المساعدات الإنسانية وتواجدوا هناك بمُعجزة وجعلوا من أجسادهم سوراً يحميني. لا جدوى من توضيح أن هذا الخبر لا أساس له من الصحّة. فأنا هنا في الصفوف الأولى من مسرح (اختراع يستخدم كل أنواع القطع من دون أيّ أساس ويثير الدخان من دون ناره وذلك لتضليل أَعِدَ بحسب الأصول هذه المرّة كدت أعتقد أنه لا يوجد إلا في الروايات البوليسية الرديئة. لكنٌ المهم أنني عندما طلبت من باتريك كلوغمان أن يذهب ليرى مدير هذه "الرسالة آ" كي يرجوه لسحب هذا الخبر الذي أكذّبه جملة وتفصيلاً والذي سيكون أثره الوحيد إعطاء فكرة سيئة عني عمّا يضعني في خطر إذا عُدتُ يوماً إلى ليبيا الهم أنني اكتشفتٌ أن مصدر هذا المونتاج اللامع هو طبعاً نفس المصدر الذي أشاع أنني هربتٌ مع موكب قافلة الُمساعدات الطبيّة علاوةً على قطرة السّمّ ‏ "عميل إسرائيل" ‏ في نهاية المقالة. لكنْ أليس للمؤسّسات لا وعي؟ ولماذا يُمكن أن تُستثنى وزارة الخارجية من هذه القاعدة؟

(الكاتب الشبح) ترجمة محمود جبريل

في بداية فترة بعد الظهر تلقيتٌ مكالمة هاتفية من الرئيس. دائماً أخاف حين أسمع على الطرف الآخر من الخط الهاتفي؛ «هنا أمانة سرّ رئيس الجمهورية» الرئيس يُريد أن يُكلّمك». في الواقع» أخاف دوماً من احتمال أن ساركوزي قرأ كثيراً من الصّحف واستمع كثيراً إلى وزرائه» أو إلى الأسياد في وزارة الخارجية» فبدأ يجد أنه خاض مُغامرةً أعقد مما تبدو. لكنْ لا. هذه المكالمة مجرّد حديث اعتيادي لأكون. كما قال. "عل عِلّم" بالْمستجدّات ثم ليطلب مني شيئاً. ابدأ بالقول: أنا مُسافر إلى بروكسل. أشعر أنني مثل فيل في مخزن بورسلان... هؤلاء الأوروبيُون لا ينتظروني إلا ليسلخوا جلدي...؛ ثمّ: «وصلت أول الطيّارات القطرية». سألته: في الجوٌ؟ «ليس في الجو لكنها أخيرأ هنا ومعها الرمز. ثم «وفي النهاية أعطوا ضمانهم لإمكانية أن نقصف ليس فقط طيّارات القذّافي بل دبّاباته أيضاً (هل عنى أتّهم ضمنوا أن تقصف الطيّارات الأميركية دبّابات القذّافي؟). لم أفهم تماماً لكنني لم أجرؤ على أن أطلب منه إعادة ما قاله. وأعلن لي أيضاً أنّه وكاميرون "الذي تحفظ في البداية على الفكرة وافق عليها في النهاية" بصدد تركيب «مصنع غاز» يسمح للتحالف بأن تقوده مجموعة مُتراصّة ‏ يسمّيها "مجموعة طيّارين" ‏ بينما يضمن حلف الناتو الذي يخشى من ثقل المصنع إسناد العمليّات. ثم وصل في النهاية إلى السبب الحقيقي للاتصال: «أصدقاؤنا في بنغازي... ألا يستطيعون أن يظهروا أكثر قليلاً؟ وحين سألته عّما يعني بذلك» وعًما إذا كان ينتظر منهم حركةٌ عسكرية وأيّة حركة يُريد: «لا لا من الناحية العسكرية» كل شيء على ما يُرام؛ لكنْ عليهم أن يظهروا سياسياً. بما يغني حتى لو لم يقّله أنه يوش من أجل طمأنة الرأي العام تصريحاً استعراضياً من المجلس الوطني الانتقالي يحيي فيه الجهد العسكري لقوى التحالّف وخصوصاً فرنسا. اتصلتٌ فوراً بمنصور. ثمّ اتصلت بجيل الذي كتبنا معه. كما في الفترة البوسنية العظيمة مشروع رسالة شّكر للشعب الفرنسي ترجمها منصور إلى اللغة العربية: وأرسلها في الحال إلى محمود جبريل الذي صار منذ ذلك الصباح رئيس وزراء المجلس الوطني الانتقالي. وجدت أن الرسالة وأنا أقرأها مثيرة للأشجان. لكنّها لا تحرج عن نغمة الرسائل التي من هذا النوع التي كنا نكتبها لبيغوفيتش منذ خمسة عشر عاماً. وخاصة أن جبريل أجازها وأضاف عليها كلمة واحدة في بدايتها هي تلك التي تذكر اسمي. لكنّه يعتمد باقي الرسالة ويُرسلها لي مُوقعَة في ورقة بترويسة عليها ختم المجلس. وضعنا للرسالة هذا العنوان: "ليبيا الحرّة تُشيد بموقف فرنسا السامي". إنّه العنوان الثاني الذي كتبتّه من أجل هذا الرجل ليلة تلاحٌق المواعيد مع هيلاري. وها هو النصّ كما أوجّهه إلى "ايتيين موجوت" الذي وعدني بنشره غداً السبت في زاوية بارزة من الفيغارو. العزيز برنار ‏ هنري ليفي. اسمح لي أن أطلب مرّة أخرى وساطتك ‏ أنت الذي أول مَنِ قرّبنا من الرئيس ساركوزي ‏ لتوصل إلى الرئيس الرسالة الآنية. . "السيّد الرئيس. دمّرت طيّاراتكم في الليل الدبّابات التي كانت تستعِدٌ لتدك بنغازي وتدخلها من دون مقاومة. شُكراً لطيّاريكم الذين ينطبق عليهم قول ونستون تشرشل في الطيارين الإنكليز سنة 1940: هذا‏ العدد الكبير من الناس مَدينٌ لقليل من الرجال. ومنذئذ شلّت ضربات التحالّف تشكيلات الطاغية حتى لو احتل المدّن الساحلية حيث يتحصّن: وحيث لا نزال غير قادرين على طرده منها نتيجة نقص المعدّات.فشكراً للقوّات البريطانية والأميركية؛ والأوروبية والفرنسية والقطرية والكويتيّة على مشاركتها.  فالشعب الليبي يرى فيكم المُحرّرين. وسيكون إلى الأبد مُعترفاً بجميلكم. وأريد يا سيادة الرئيس العزيز ساركوزي أن أوجّه إليكم وإلى الشعب الفرنسي هذه الكليات: الشعب الليبي وكذلك الشعوب الصديقة والجارة بدءاً بإخوتنا التونسيين والمصريين ترى في النجدة التي قدّمتموها لنا التفاتة عظيمة إزاء العالم العربي، نجدة الربيع العربي وهذا الدعم الحاسم لتطلّعات شعوب منطقتنا إلى الحريّة وحقوق الإنسان. إِنَّه يتجلى اليوم في ليبيا: لكننا نعرف أنّ هذا سيتخطَّى حدودنا ويتوجّه في ما وراء كفاحنا إلى إخوتنا جميعاً. أما الآن فسوف يستمرٌ كفاحنا من أجل التحرير. لا شك أنّ على قوّاتنا أن تُنظّم. لكنْ لا تنسوا يا سيادة الرئيس أنّ عمر جيشنا لا يتعدّى ثلاثة أسابيع. ورجالنا جميعهم جاهزون للمعركة. ولا نشك بشجاعتهم. نحن لا نُريد قوّات خارجية ولن نحتاج إليها. وبفضلكم سوف ننتصر في المعركة الأولى. سوف ننتصر بوسائلنا الْخاصّة في المعركة الثانية. وتحرير بلادنا قادم. يلزمنا فقط بعض الوقت. ونحن نعلم أن بإمكاننا الاعتماد عليكم حتى التحرير النهائي لبلّدنا وسقوط الطاغية القذّافي. شكراً لفرنسا. وعاشت ليبيا الحرٌة." في المساء اتصل بي الرئيس الذي وجهِتٌ له الرسالة بطبيعة الحال. كان يبدو راضياً. وقد تأئّر بصدق حين لفت نظره إلى أن هذه الرسالة ستكون أوّل فعل رسمي لحكومة ليبيا الوليدة. وقال لي على عجّل إن الأشياء تطورت في الساعات الأخيرة وأنْ الاثني عشرة طيّارة إماراتية والطيّارات القطريّة الستَ دخلت المعركة فعلا كما أخبرني أنْ القمة الأوروبية التي كان يخشى عواقبها لم تكن بهذا السوء؛ وأنَ مجموع الشركاء انتهى» طوعاً أوكرها بالإصطفاف وراء فرنسا وأن قمة في لندن ستنجز في الأسبوع القادم تقويم العلاقات وستسمح في الوقت نفسه بالتفكير في وسائل تشجيع الانشقاقات في معسكر القذافي وتسييرها بل وتنظيمها..

السبث 26 آذار/مارس (بسرعة: لفتة من إسرائيل) أمن مساء. في بهو فندق رافاييل. حديث مع أفيغدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل الذي لم أكن أعرف أنه نزيل هذا الفندق. كنت عائداً من قناة فرنسا الثانية بعد أن شاركت في النهاية في نشرة الثامنة مساء بعد أن ألغيتها بسبب مُقابلة مع البي بي سي.. الوزير هنا في البهو يُرافقه صديق بلجيكي دنا مني وقال: "رآك الوزير توا على التلفزيون في غرفته. هو الآن خارج ليتعشّى بسرعة؛ لكنه يودٌ أن يراك بعد العشاء مباشرةً ليتحدّث معك عن القضية الليبية". عاد بعد ساعة شكلّه مُطابق لما كنتٌ أتخيّله بنية جسدية حارس ملهى ليلي.. هذه الطريقة في أَخذٍ راحته وهو ينزع سترتّه وربطة عنقه شخيره الرنان الهادر. تخالّه شخيراً؛ إذ لا أستطيع من جهة أخرى؛ أن أمتنع عن تخيله وهو يتكلم نائمأ يعلو شخيره بمثل هذا الضجيج. فيها عدا هذا هو ذكيّ. إنها المفاجأة: وجدته أذكى وأكثر تماسكاً مما كنت أظنّ، قلت له كم أجد فزع إسرائيل من الربيع العربي مؤسفاً. ألححتٌ على حقيقة أن هذه الثورات واقع؛ وأنهاء سواءٌ راقَتْ لنا أم لا لم تطلب من أحد السماح لها بأن توجد وتسلك المجرى الذي حدّده لها التاريخ. لكنّ الخيار بالمقابل هو خيار باقي العالَم. وخصوصا إسرائيل ‏ فهل سنتمسّك بالعالم القديم؟ وهل تُريد أن نكون آخر من يخوض معركة خلفية خاسرة سلفاً ومخجلة؟ ومن وجهة نظر أخلاقية وإستراتيجية: أليس الاقتران بحدث لا يعتمد في أية حال من الأحوال إلا على نفسه باهظ الكلفة؟ كنتُ أشجّعه في النهاية على تبديد الإشاعة المتواطئة التي تقول إِنّه على علاقة شخصية مع رجل أعمال نمساوي غامض هو نفسه صديق سيف الإسلام الابن الْمَفضَل عند القذافي: قلت له: "ليس هذا موقف شمعون بيريز» ولا يهود باراك؛ وأيّ شخص في ليبيا يعرف أنَّ القذّافي هو العدو الأكثر بُغضاً لإسرائيل؛ فلماذا يبقى الشخص الُمكلّف بحقيبة وزارة الخارجية في إسرائيل الذي هو أنت منسجماً بهذه الطريقة الغريبة؟ وعلى غير المتوقّع أجابني بحُزمةٍ من الحجج التي رأيت أنها رديئة وغير مقبولة ‏ لكنّ لها منطقها: 1.  وجوب عدم تخْلف إسرائيل عن حُلفائها على قَلَتهم. فإسرائيل معزولة كما هي حال بعض دوّل العالم وكل حليف من حلفائها سماوي نعمة من الله. فلماذا تخون بن علي الذي عمل كل ما يستطيع منذ عدّة سنوات ليحتوي مُعاداة الساميّة في الشارع التونسي؟ ولماذا كان يجب التخلٌي عن مُبارك الذي كان الحارس الوفي لمعاهدة السلام التاريخية الفريدة من  نوعها التي وقّعها السادات وبيغن؟ ولماذا سنقلق ملك الأردن الشاب فضلاً عن الملك السعودي العجوز الذي تُقيم إسرائيل معه علاقات سريّة والذي يعيش الرُّعب من رؤية الربيع العربي يجرف عرشّه؟. 2. تجنب إظهار أية علامة على الضعف قال: منطقتنا صعبة بل متوحشة لا تحترم إلا القَوّة والحال أنَّ قوّة إسرائيل ما تزال مُتماسكة؛ من خلال نوع من النبوءة ذاتية التحقق في هذه القوّة ذاتها التي تُقَدّم المشهد. تأمّل الذي جرى بعد أن تركنا لبنان. انظر كيف فهمت المنطقة انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي من غزّة. وجهنا رسائل سلام ففُهمت أنها دليل الضعف، قدّمنا تعهّدات بحسن نيّة فاعتقد الشارع العربي أنّهِ يستطيع أن يُركٌعنا. أريد فعلاً أن أتعاون مع السلطات الجديدة في مصر. أريد فعلاً لأنها طلبت مني هذا مخالِفَةٌ مع ذلك اتفاقيات كامب ديفيد التي تحظر نشر قوّات إضافية في سينا وقد وافقنا على هذا خاصة للمساعدة على حماية منزل مُبارك وحراسة عائلته في ذهابها وإيابها والسهر على أمن السيّاح. غير أني لا أريد بأيّ ثمن إعطاء صورة بلّد خائف. لا أريد وأنا أمد يدي إلى ثوّار لا أعرف عنهم شيئا أن أشيرهم أننا نتملقهم وأننا نمضي في مهب الريح. 3. وأخيرأ وعرّضيا يُريد تجنب أن يبدو مُثيراً للسخرية ألا يبدو بهيئة الساذج الضخم الذي لا يرى كامل رُقعة الشطرنج بل قطعة واحدة مُفْرّدة - أو يبدو بهيئة أسوأ هيئة السياسي الذي يحب ويؤيّد هذه الثورات بدافع المصلحة؛ لكي يجني أموالأ ويدّخر أرباحاً. قال: عيوبي كثيرة لكنّي لست انتهازياً. أمَا لهب دور محُرّري ليبيا الرومانسيّين (على طريقة بايرون)؛ فبصراحة تجاوزتٌ هذا العمّر... هل كان يسخر منّي وكأن شيئاً لم يكن؟ امتّد الحديث إلى ساعة مُتأخرة من الليل وهو يطلب الويسكي كأساً إثر كأس، ولم يكن يبدو مع مضي الساعات بالوعة خمر بل أليف حانات لا يُريد الذهاب إلى النوم. لكنْ كلّما كان يشرب أكثر ينزلق لسانه وتتلاشى حُججه. وتُشْحَذ أفكاره حتى بدت لي رهيبة الوضوح. الحقيقة أنَ هذا الرجل خائف. نعم هذا الرجل الذي قال لي إِنّه خائف من أن يبدو بمظهر الخائف إِنّا هو رجلٌ مرعوب بخباوة لا توصّف، فعلى وجهه الضخم بملامحه البسيطة ونظرة المُدمِن على الخمر وفي جسمه الهائل لكن المنهك الذي يهزّه الشخير الذي تعاظّم ضجيجه وكأنه نداءات استغاثة وفي صوته الذي كان في البداية يُلِبسه نغمة صوت الوزير ولكن مع مرور الساعات؛ وبعد أن خلا البار من كل أَذْنِ فضولية لم يعد يستطيع التمثيل فاهتزٌ الصوت قليلاً ورأيتٌ شيئاً أعرفه جيدا ألا وهو خوف إسرائيل المرّضي الدراماتيكي العائد إلى آلاف السنين. وإزاء هذا الخوف أنا خائف من الخوف ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً.

الأحد 27 آذار/مارس (مكالمة هاتفية جديدة من الرئيس) لا شيء خاصًاً.. أعلمني تحديداً بآخر التطوّرات قال لي "إن الطيران الفرنسي يقوم بقصف سرت. أخيراً جاء قصف سرت أفهم نفسي, يُردّد نيكولا ساركوزي... قصف منصّات الدفاع الجوي حول سرت... تحييدها الواحدة بعد الأخرى... مع الحرص طبعاً على ألا تنتج عن القصف أضرار جانبيّة". سألته عما ستكونه «المبادرة الدبلوماسية الكبيرة؛ التي أعلنت عنها الإذاعات», منذ هذا الصباح وتُعيد بثها دائمأ والتي ينبغي أن تتمخّض عن قمّة لندن يوم الثلاثاء. قالي لي: "لاشيء: صنعتٌ منها الصحافة جبلاً. لكنّ هناك سوء تفاهم. وهذا ما تحدّثنا عنه يوم الجمعة: باب الخروج. المنخل الذي يجب فتحه من أجل ضبّاط النظام وكوادره من يُريدون الانشقاق. أما القذّافي فلا شيء في شأنه ومن المستحيل أن نتّفْق معه وبالتالي عليه أن يرحل". فهمتُ من دون أن يُوضّح لي أنه هو وكاميرون ترّكا برلسكوني يقترح برنامج تهريب القائد المخلوع. ترّكاه يفعل ذلك لأنّه كان يبدو راغباً في أن يتوسّط ويلعب دور الراعي الصالح الساعي إلى إنقاذ وضع شريك طرابلس. إذا تمّ هذا بمُعجزة فسوف نرضخ له ونتيح تنظيم انسحاب ذهبي إلى زمبابوي. لكنّ ساركوزي لا يعتقد ذلك ولا يتمناه. إِنّه لَشعور غريب أن يصير الأمر بينه وبين القذّافي؛ على نحو مُفاجئ «شخصيا» كيا يقال في الروايات البوليسية. قلت له هذا فضحك. سألته لماذا فلم يجب. هل يكون السبب معلومة لا أحد يعرفها غيره؟ أم ملمح شخصية اكتشْفّه منذ أربع سنوات خلال الزيارة المشهورة إلى باريس؟ أم أنه حدّث عندما أرسل السكرتير العام للإليزيه وكذلك زوجتّه بريسليا للتفاوض في قضية الُممرّضات البلغاريات؟ اختزلتٌ الأمر في افتراضات.

الاثنين 28 آذار/مارس (ما معنى الديبارديودونيه؟) هذا الصباح حدثت مُصادفة غريبة وحزينة. ديودونيه في طرابلس التي يُمطرني منها بوابلٍ من الشتائم - وهذا ليس جديداً. حتى جيرار دوبارديو في الفيغارو هاجمني أيضاً ‏ بلهجة عنيفة فاجأتني، طبعاً لم يستخدم الألفاظ نفسها، لكنّ ثمّة في مُوحِيات نقدهما اللاذع في رحيق التوتسترون؛ والخمر في جانبه الصّعب الوعر التحليلي الخرائي الغامض من النقاط المشتركة ما يكفي ليوحي لجان بول بأن ينحتّ كلمة جميلة هي «الديبارديودونيه»» ولمجلّة "لاريجل دي جه" بمقالة ظريفة جداً كتبها جان بول نفسّه تبدأ بهذه الكلمات: "الديبارديودونيه حيوانٌ فرنسي: بَدِينَ سكران؛ فظ وأحياناً جاهل" وتننهي بهذه الكلمات: "لماذا الهدف ذاته" وفي اليوم نفسه والمفردات المُتقاربة ‏ بينما كان الديبارديونيه قد عوّدّنا على فن ازدواج الشخصيّة (التمثيل) الأكثر حذقاً؟ حقاً إن دراسة الممسوخات علمٌ متلعثم يُرثى له. ومرّة أخرى وكما في البوسنة تتأكّد الطريقة التي تجري فيها الأحداث الحقيقية ليست الأحداث الأفلاطونية الضئيلة التي يتلمّظ بها «ثورجيّة» الصالونات أو المخابر ولا الأحداث الواقعية الأحداث المحسوسة؛ حيث تتقرّر مصائر الشعوب أو رغباتها في الحريّة أو العمّل كمُساعد على إحلال الحقيقة واستلهام اللاوعي السيامي وعوامل التقسيم أو التقريب غير المُتوقّعة وعلوم الخرائط الملهّمة. في البوسنة تقاربتٌ مع جوليار أو مونجان, والتقيتٌ هيتشنز وتخاصمتٌ مع ماريك هاتير وتصالحتٌ مع فيكيبلكروت. وفي ليبيا الشكوك المعتادة نفسها يضاف إليها مُجدَّداً آخرون غير مُنتظرين ‏ مارتين أوبري التي تم اللقاء معها وجوفران أو ديموران الكاملان وتقارير ريمي أوردان في اللوموند وتقارير جان ‏ بيير بيران في ليبيراسيون أو تقارير موريس أوليفاري على القناة الفرنسية الثانية الممتازة ومهدي بلحاج قاسم الذي أوّل من حذرني من هول الحدّث التونسي ثم على العكس هذا الحيوان الذي لا جنس له؛ لكنّه ليس من دون مستقبل الحيوان الذي ظهر على قرون استشعاري الخاصة- ‏ ديبارديودونيه الحزين...

الخميس 29 آذار/مارس (ظل كوشنر) الساعة العاشرة. حديث مع الرئيس. الرئيس غاضِبٌ من باراك أوباما الذي هو الآن على وشك إعلان إرادته في الانسحاب. تحدث معه أمس مساء. كان مُتصلَبا جداً حازما بالِغ القسوة. فتكوّنت لديه القناعة بأنّ الولايات المُتحدة ستسعى إلى الانسحاب. ألّح بالقّول: "هذا غريب. كانوا ممتازين في البداية ممتازين جدّاً. أوباما هو الذي كان الحكم النهائي بين غيتس وكليتتون حين اتخْذ قرار التدخل لكن هنا فجأةً... لم أعُد أفهم ما يحصل... أنا مُتأكّد أنه انسحب...؟" لفت نظره إلى أنّ هذا الانسحاب الذي لن يكون نهائياً على كل حال والذي سوف يُبقي بالتأكيد إسناد البنتاغون على الأرض ليس بالضرورة سيئّاً من وجهة النظّر الأوروبية "ألا يجعل الأوروبيّين أكثر حريّة في التصرّف؟ وبالتالي أليست هذه فرصة غير مُنتظرة لأوروبا التي تجد صعوبةٌ في التكوّن كي تَبرهن على وحدتها بخطىّ حثيثة؟ ألْنْ يُعطي الانسحاب الأميركي فرنسا كي لا نتحدّث إلا عن فرنسا التي هي في الْمقدّمة حين يحل اليوم المناسب؛ أعني يوم النصر الذي لا ريب فيه. ألّن يُعطيها الاستحقاق الجوهري. وأكاليل الغار؟" قال بصوتٍ يشوبه قليل من التفهّم لم أسمعه في مُكالماتنا منذ شهر: «نعم؛ رُبّما... لا أدري... ينبغي أن ينجح هذا... نعم يجب أن ننجح في المضيّ إلى نهاية هذا كله وأن يكون هذا فعّالاً..." ثُمّ قال معبّراً عن قلقه: "هل هناك أخبار من أرض المعارك؟" اتصلت أمس بجبريل وصلت الأسلحة الفرنسية. وكذلك الُمدرّبونَ العسكريّون. أشعر أن الأشياء تسير في الاتّجاه الصحيح .. قال وهو ما يزال شاكاً وقلقاً بغرابة: هذا صحيح. لكنْ كان علينا ونحن ننتظر أن نكبح جموحهم قليلاً. لنكن متأكدين أنهم سيملكون وسائل م هياجهم وبالتالي وجب أن نوققّهم. فليس لديهم ما يكفي من السلاح ولا من التدريب ولا من المدربين. ينبغي أيضاً الاهتمام بهذا كله كما ينبغي أن نكون صَبورين ثم استدرك فجأةٌ. شعرتٌ أنّه خائر العزيمة مُنَهّك ومُحبَط تقريباً. إذ غير نبرته كلياً وانتقل بلا تحذير وبشكل مرح - بنبرة فجأةً لم تعد تُشبهه على الإطلاق. "ما علينا! إنهم رائعون! أصدقاؤنا رائعون دعوناهم إلى لندن. سوف تُقتتح القمّة خلال بضع ساعات وسيكونون هناك. سَوف يُلاقون الحفاوة الرسمية وسيكونون محط كل الأنظار وهم يستحقّون هذا. فهم أناس طيّبُون. ليس هناك مُشكلة ليس هناك مُشكلة على الإطلاق. سوف ننتصر في هذه الحرب!." وأغلق الخط. نبرته تقول لي شيئاً. لديّ انطباع بأنني سبق أن رأيتّها سبق أن سمعتّها أنا مُتأكٌد أنه ليس صوته. لكنه صوتٌ مَنْ؟ ومن أين أتاه؟ ومن أين حصل على هذا المرح الْمباغِت المبالّغ فيه قليلا وأخال أنه لم يمتلك الوقت لصهره في لُغته وفي صوته الخاصٌ؟ أين راح يبحث عن هذه الطريقة الجانبية تمامآ في التصٌّرف كما لو أن كل شيء يسير على ما يُرام وأنّهِ يُسيطر على الموقف سيطرة تامّة؟ طبعاً... هذا بديهي... فلكي يقاوم لحظة انهيار العزيمة التي ليست من طبيعته استعار من دون أن يدري صوتاً لا يُشبه صوتّه لكنّه لا بُدَ أن يكون قد سمعه؛ في ظروفٍ مُشابهة لهذه الظروف هو صوتٌ مَنْ... صوت... أستطيع أن أتعرّفه من بين ألف صوت... إن صوتٌ برنار كوشنر! يعثر إذاً على صوتٍ وزيره السابق كأثر شبّح هذا المزاج التواًصلي الرائق ونوبات فوّرانه الحماسية الصبيانية وهذا الميل إلى طريقة "كويه" التي طالما اعتمدها المكافح الذي لا يعرف الكلل من أجل حقوق الإنسان في اللحظات الحرجة؛ وأنا واثق من أنه كان يُورّطه! ولا بد أنه ازعجه طبعاً، وأفرغّ صبرّه. الدليل على ذلك أنه صرّفه واستبدله قبل هذا "بليفيت" المعروف بدبلوماسيّته والذي صار وزير خارجيّته الحقيقي. غير أنْ كوشنر كان يُطمئنه بتفاؤله الذي لا يتزحزح وحميّته وجانبه المرح إذ يقول «هيًا بنا أيها الصبيان»» وطبعٌ الطبيب الناجح الذي يود الحل دائماً. وقد وجد الدكتور الوسيلة؛ عن بُعد من دون أن يعلم هو الآخر في أن يصِف له دواءه السحري؛ ويحقنه به فما الذي يبقى من صديق؟ رُبما يبقى هذا...صوت...بضعةٌ من صّوت...طريقة في وشوشة تُشبه الكلام الذي نقوله في الليل لأنفسنا كيف نستمد منه الشجاعة والحيوية...وأحياناً تبقى منه حركة...أو إيماءة... والباقي... أوه الباقي! سُعداء أولئك الذين نحتفظ لهم في داخلنا بهذا الوجود من الظلال. يتواصل

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح 5
الأحد, 14 فبراير 2021 21:59

موعد هام مع كلينتون

قمت بما قرّرتّه.اتصلت لا على التعيين بالهواتف المحمولة لأعضاء الوفد الليبي الثلاثة حتى أجاب واحدٌّ منهم هو محمود جبريل. بعد تأكدي من أنْ جبريل يستطيع أن يكون في باريس اليوم؛ يوم الاثنين من دون مصاعب كثيرة اتصلتُ مع صديقٍ قطري بمكتب هيلاري كليتتون للحصول له على موعد في الخامسة مساء في فندق وستون تماما قبل لقائها بنيكولا ساركوزي والعشاء الرسمي لمجموعة الثماني في قصر الإليزيه. باستثناء أن لاشيء سار كما كان مخطَطا كان هذا من أوّله إلى آخره.يوماً من الغبّن.أولأ وصلت طيّارة جبريل التي استأجرها القطريون في الموعد الْمحدّد الساعة الثانية والنصف بعد الظهر قادمةٌ من الدوحة مما يوفْر له الوقت الضروري قبل الموعد المُحدّد مع كلينتون في الخامسة للمجيء إلى باريس والمرور إلى فندق رافاييل حيث حجزت له غرفة وحضرت له اللقاء مع هيلاري فقط، لم يفكر أحدٌ أبداً بإعلام أحد أيّاَ كان بالوصول الوشيك لممثّل المجلس الوطني الانتقالي المعترف به حديثاً. فاضطرب رجال شرطة مطار بورجيه حين رأوا جواز سفره. وانكبّوا على الاتصال الهاتفي مع كل الجهات يُتابعون القضيّة ولكنهم يُعرقلوننا. دافعت كثيرأ وزجرت. وجبريل انفجر وأدان وهدّد حين فهم من هذا أنه غير مُرحُبٍ به؛ بأنه سيعود من حيث أتى. ما أكثر ما شرحت الأمر لرجال الشرطة الُمتشْبّثين برأيهم أنَّ هذا هو محمود جبريل حامل جواز السفر نفسه هو جبريل نفسه الذي زار باريس أوْل مرّة يوم الأربعاء الماضي. لكنهم لم يقتنعوا. مضت ساعة ساعتان. فاتّصلت بالرئيس الذي لم يفهم شيئاً من القصّة فحوّلني إلى ليفيت الذي وعدني وهو يلفت نظري إلى أنه ليس على عِلْمٍ بشيء؛ بأن يفعل ما يستطيع. لكنّ آن ‏لور مونديزير من وكالة الصحافة الفرنسية هي التي اتصلت فإذ كانت على علم بالموعد مع كلينتون اندهشت من بقائنا في مطار بورجيه حتى ذلك الوقت ومضى الخبر الجيّد الصغير وميشيل ديكلو المستشار الدبلوماسي في مكتب وزير الداخلية الذي شرحت له أننا نلامس الحدث الأكبر ولا داعي لإذهال العالم بكوننا أوّل المعترفين بالمجلس الوطني الانتقالي وبعد ثلاثة أيَام نزُعِج مبعوث هذا المجلس هو الذي توصل إلى حل المشكلة إنها للأسف الخامسة والنصف مساء. مضت ساعة الموعد. وجبريل غير المرتاح يبدو في هيئة بل في مزاج ثور هائج، ركبنا في سيارتي ووصلنا إلى أبواب باريس وبقي جبريل لائذاً بالصمت. سوء التفاهم الثاني. بينما كنت أجاهد وأنا في السيارة لأحدّد ساعةٌ أخرى هذا الموعد مع كلينتون تلقى جبريل رسالة نصية على هاتفه الخاصٌ. «صاح فرحا وفجأة تحسّن مزاجه قليلاً: "إنه جوبٌ. حُدَّد لنا موعد مع السيّد جوبٌ". قلت له: هذا رائع وطلبتٌ من السائق أن يتجه إلى وزارة الخارجية. حتى لو أتيت إلى هذا الموعد فعلي أن أَنبّهه بصدق أنني؛ نظراً حال العلاقة بيني وبين من يُسمّيه السيد جوبٌ من دون تشديد النبرة ويلفظ اسمه كما تُلفظ كلمة تنورة، فسوف أرافقه لكنني لن أشارك... وا أسفاه. على حرس وزارة الخارجية لم يسمع أحد باسم جبريل. وبعد التنقيب فهمنا أن جوبيه نفسه ليس هنا لأنّه غادر منذ ساعة إلى قصر الإليزيه ليستقبل السيّدة كلينتون مع ساركوزي. وفي النهاية وعندما نزل أحد المستشارين الذي ما إن رآني حتى انفجر ضاحكاً اكتشفتٌ أن هناك خلطاً قد حصل نتج عن الصياغة السيّئة للرسالة النصيّة فالموعد ليس مع جوبّيه بل مع مدير مكتبه. توجّهت إلى اينّى - ليه مولينو إلى قناة الآرتيه لأترأس مجلس الرقابة الذي ينبغي أن يُنصّب فيرونيك كايلا ويُودّع جيروم كليمان. بينا بقيَ جيل هرتزوق يننظر في مقهى مجاور نهاية الموعد مع مدير مكتب الوزير.أمَا جبريل الذي باغتّه برد باريس فوضع في رأسه فكرة شراء لثام ومعطف. وبعد ساعتّين حين التقيتٌ به من جديد كان أكثر تعجرّفاً وغضّباً مما كان حين تركته. سوء التفاهم الثالث. لقاء كلينتون. أجل الموعد في النهاية إلى التاسعة مساءً تماماً بعد موعد ساركوزي  جويّيه والعشاء في الإليزيه. نحن في فندق فيستن. هذا الفندق محطة استراحة كبرى نموذجية للأميركيين المسافرين. فلول من الصحفيين والمعاونين من مختّف الألوان والأنواع. مخابرات. حرّس شخصي. وفجأة في العاشرة تشرع خليّة النحل في الحركة وكأن علامة نبَهتها إلى وصول ملكة النحل. «قَهِمَّهتُ وهي تراني» عند باب المصعد وأنا مع جبريل بين مُرافقيها وقالت: ها أنتَ هنا! كنت أعتقد أَنّك في ليبيا تماماً يا سيّدتي » فقد وصلت توا من هناك» وأشرت لها إلى جبريل قائلاً: "نحن هنا من أجل هذا...؛". صعدنا إلى الطابق الذي تنزل فيه. استمرٌ اللقاء الثنائي كلينتون ‏ جبريل حوالى خمسين دقيقة. وكان حين خرج منه؛ أكثر حنقاً مما كان عليه في مطار بورجيه. وأكثر اهتياجاً مما كان عليه بعد موعده الخُلّبٍ مع «جوبٌ»: ويشرح للسيّدة كلينتون المذهولة أنّه يطلب "باباً خلفيا" يجب أن أجد باباً خلفياً؛ بل مخرج نجاة... لأنني لا أريد أن أرى الصحفيين... لا أريد أن أكون فظأً مع أحد غير أنني لا أريد أبداً أن أقدّم أيّ ضمانٍ لأيّ كان عن هذا الموعد الذي انتهى توّاً... لأنَّ الموعد كما شرح لي حين عاد إلى السيّارة لم يكن موفّقاً. فكلينتون لم تقل شيئاً. تركئة يتكلم ولم تقل شيئاً. وشعر تماماً ب "تعثر مُرافعته عن المدنيين في بنغازي؛ وعن دعوته إلى توازّن السياسة الأميركية التي لا تستطيع أن تدعو في كل مكان. إلى قِيَمِ الديمقراطية وحقوق الإنسان وتترك الشعب الليبي يقتل عندما يُطالِبٍ بها" جبريل واثق من أنه أخفق واثق من أنّ كلينتون لم تفقه شيئاً. لهذا السبب وبعد مروره إلى البريستول لأنه كان عل موعد مع إماراتيّين عدنا إلى فندق رافاييل حيث حاولت أنا وجيل؛ ونحن مُتعبان تعيسان. لأنّ مرارة جبريل تغلّبت على حُسن مِزْاجينا أن نكتب في قاعة الطعام الخالية على طاولة مُعَدَة لفطور اليوم التالي مسوّدة «نداء الفرصة الأخيرة» الذي سأنصح جبريل منذ الفجر بأن يُطلقه كطلقة أخيرة كآخر قارورة تُلقى في البحر. يقول النداء: «ليبيا صديقة العالم أجمع! ليبيا الُحرّة في خطر الموت. فهبوا لنجدتنا. ثار الشعب الليبٌي؛ منذ ثلاثة أسابيع؛ بعد أربعين سنة من الاضطهاد. وحرّر قسياً كبيراً من البلاد بدما آلاف القتلى .لكنّ الطاغيّة تمالك نفسّه ثائية. فصدّ جيشٌ مرتزقته مُقاتلينا غير المسلّحين كها ينبغي الذين انطلقوا لتحرير طرابلس. طيّاراته؛ ودبّاباته ومدفعيّته تقصفنا ليل نهار في قلب الصحراء. كان ينبغي أن نتراجع خسائرنا فادحة وطريق بنغازي المحرّرة مفتوحة أمام أرتاله الجهنّمية التي نخشى وصولها السريع عاجزين فلم يعُّد أي شيء في الصحراء يعترض القوّة الميكانيكية؛ والمصفحات التي لا نملك الوسائل ولا الزمن لإيقافها. لا نملك إلا صدورنا لصدّها وسوف تُضحَّي بأنفسنا قوّة واحدة تستطيع إنقاذنا يا أصدقاءنا في سائر أنحاء العالم.إنها قوّة أصدقاء الحريّة. القوّة الخارجية وحدّها الخارجية حقّا هي القادرة علىإنقاذنا. فرنسا هي أوّل من اعترف بنا كبلد حر وعلّمها يُرفرق في بنغازي. ونحن نناشِد هذا البلد العظيم أن يأخذ زمام المبادرة لتشكيل تحالف عسكريٌ دوليّ. فبإمكان الأساطيل الأجنيية القريبة من سواحلنا والجيش المصري الصديق أيضا أن تصدّ بطريقة حاسمة: عبر قوّها الرادعة وحدّها تقدّمَ كتائب القذّافي باتجاه بنغازي وليبيا الحرّة. أيها الأصدقاء الفرنسيون أنتم الذين عانيتم من الاحتلال الأجنبي الشرس طيلة الحرب العالمية الثانية: أنتم الذين حقّقتم التحرير بفضل الجنرال ديغول والمقاومة ومساعدة حُلفائكم. ندعوكم يا سيادة.. إنها الساعة الثانية صباحا.. سيكون نهار غدٍ وعِراً.

الثلاثاء 15 آذار/مارس (مكالمة هاتفية من ساركوزي) لم أعد أفهم شيئاً. الإخفاق من جانب وحتى النحس فمجموعة الثماني أعلنت موافقتها على عقوبات لكنها استبعدت الخيار العسكري، وألقت ألمانيا بثقلها الكامل لتمنع صدور بيان صارم »ويبدو أنها تغلّبت على التصميم الفرنسي. ومن جانب ثقافي» وقّعت على عريضة أرسلها إليّ غلوكسان وكتبها نيكول باشاران؛ ودومينيك سيمونيه. لكنّ العريضة الوحيدة التي أتمكن من تنظيمها والتي يمكن أن يكون لها معنى هي عريضة الْمثقَفِين الفرنسيين والألمان الذين يجب أن يضغطوا على حكوماتهم لتذكيرها بقواعد الشرف الآساسية ‏ وهانس كريستوف بوش لا تُجِيب ورقم بيتر شنايدر الذي عندي غير صحيح وحين هتفت لبوب جلدوف المحترف في المجال الذي لا خلاف حوله أجابني بأنه موجود في الولايات المتحدة وأنه مشغول جداً في تلك الفترة وأن الدول وحدّها هي التي تستطيع؛ في هذه المرحلة؛ أن تُوقف المجزرة. لكن من جهة أخرى تلقيتٌ مُكالمة هاتفية من الرئيس؛ الحانق على شُركائه وخصوصاً على ألمانيا فقال لي (لست أدري إن كانت المستشارة مُنتبهة إلى مجازفتها والمُجازفة ببلدها؛ فأنا من يجدون طبيعياً أن تكون ألمانيا مُرشحة لنيل مقعد دائم في مجلس الأمن لكن كيف يُمكِن أن تبغي الشيء ونقيضّه وكيف تغيّر موقفها بهذه الطريقة أمام الأزمة العويصة الأولى التي تواجهها السياسة الأوروبية منذ حرب البلقان؟ لكنه مع ذلك ليس محبطا بصورة غريبة ليس محبطا تماماً (من جديد يُخيّم شبح البوسنة الذي سبق مذبحة سبرنيتشا والذي أتنبّه على عجّل أن في رأسه توقيته الدقيق تقريباً؛ «قال لي: اليوم أنا صاحب القرار وأريد أن أفعل كل شيئ لا أعرف بعدُ كيف» غير أني أفكر في الأمر لأمنع تكرار مذبحة سربرنيتشا» وشدّد على دعم الجامعة العربية الجوهري والأكيد ومن جهة أخرى. قال لي مصدر مُقرّب من هيلاري إِنَّ جبريل لم يفهّم؛ وأنّ هذا الدبلوماسي المُحنّك جانبَ الموضوع الذي أثاره بغرابة؛ وأثْر في هيلاري وهزٌ مشاعر الحيوان السياسي الكامن فيها وببساطة شديدة حرّك مشاعر المرأة وما إن عاد على أعقابه من الباب الخلفي؛ حتى انعقد مؤتمر هاتفي بين باريس وواشنطن. في جنح الليل مع روبر غيتس (المعارض الشرس للتدخل) ومع أوباما (المتردد) الذي لم يكن من المؤكد أنه يمضي في اتجاه عدّم التدخل الذي يتبنّاه غيتس. لما أحاطني الشكٌ وجدت من الحكمة أن «أحتفظ» ب «نداء الفرصة الأخيرة» ‏ وأن أخبر جبريل بذلك عبر رسالة نصيّة،اقترحت عليه أن نمنح أنفسّنا أربعاً وعشرين ساعة. فالبشر »وحتى السياسيُون» غامضون في بعض الأحيان. ومّن يدري فَربما تزحزحتٌ كلينتون عن موقفها من دون أن تعلّم؟

الأريعاء 16 آذار/مارس (مكالمة ثانية من الرئيس) مضت الأربع والعشرين ساعة. وجهتٌ رسالة نصيّة أخرى إلى جبريل وطلبت منه أن يؤكٌد لي رغبته في نشر النداء الذي كتبناه يوم الاثنين مساءً. وخلال فترة انتظار جوابه كنتٌ أكتب في غرفتي كلمتي الخاصّة بتكريم جورج سميرون التي ينبغي أن ألقيها نهاية شهر حزيران/ يونيو بحضور جورج في مدريد. رنَّ هاتفي. إنّهِ الرئيس،رأى عريضة باشاران ‏ سيمونيه التي كانت قد نُشرت توا في جريدة اللوموند. ويبدو أنه كان قد تقدّم قليلاً في القضية  ما يزال مُغتما ويائسا لكنْ من المحتمّل أَنّهِ تبصر حلاً. هل تعرف سفيرنا في الأمم التّحدة؟ ‏ هو الذي كان سفيراً في إسرائيل منذ سبع أو ثماني سنوات؟ قريب من دو فيلبّان؟ هذا شخص ممتاز مقدام تخاصًم أمس مع سوزان رايس.يا لُرخاوة الأميركيين. لم أعد أفهمُهم. صمت ثم قال: - أو أنني أفهمهم تماماً لكن لنصرف النظر ... - تفهمهم تماماً؟ لا لا أهمية لهذا. علينا أن نتقدّم الآن ونحاول المضي بقّوة.. قلت وأنا مُقتنع أنه يعرف المسألة أكثر مني وأنه سيقول لي ذلك: مُعادلة الأميركيين شديدة التعقيد. فهناك كلينتون من جهة:؛ التي قيل لي إن موعدها أمس مع جبريل رُبَما هز كيانها... لم يُعلّقَ على كلامي. ومن جهة ثانية؛ هناك روبي غيتس الذي مضى إلى حدٌ القول كأكثر طبقات العزل سباكةً إن أنصار العمل العسكري في ليبيا خارجون من مستشفى الأمراض العقليّة... تمتم شيئاً عن غيتس ومستشفى الأمراض العقلية؛ لكنه غير الموضوع. ما الأخبار عندك عمّا يجري هناك؟ -  دبّابات القذّافي تخطت البريقة. وسيطرت كتائبه على المدّن كلّها بها فيها اجدابيا التي كان الثوار ما يزالون يسيطرون عليها صبيحة اجتماع الإليزيه. والآن تزحف كتائب القذّافي إلى بنغازي.. صمت لثوانٍ واستأنف كلامه بصوتٍ مخنوق وكأنّه كان يتحدّث مع نفسه. "أعرف هذا كله". ولذلك يجب أن نخاطر بكل ما لدينا. الآن قد لا ننجح. وحينئذ لن يستطيع أحد أن يقول إننا لم نحاول. ما ذا تعني الُخاطرة بكل شيء؟ التصرّف بسرعة واستباق العالم. - ماذا تعني؟ استباق الأميركيين أوّلاً. ثم الروس الذين يستعدّون لاستصدار قرار لن يذكر إلا وقف إطلاق النار مما سوف يُعقّد المسألة. من دون الحديث عن الصينيّن الذين يترأسون مجلس الأمن...

من دون الحديث عن الصينيينَ نعم بالتأكيد. هذه الأسباب مُجتمعة يجب المضِي بسرعة فائقة والاعتماد على عنصر المفاجأة. لكنْ لا تقل كلمة عن هذا أيّة كلمة. وبعد فترة صمت جديدة قال: قبل أن يُعْلق الخط هذه الكلمة الأخيرة بصوتٍ مشوب بالسخرية: "أسمح لنفسي بإسداء نصيحة إن أمكن نصيحة بسيطة للغاية هي أن يعدل جبريل عن توجيه ندائه إلى دوّل العالم..." لا أتذكر أنه تحدّث عن ذلك. أو رُبَّا لم عد أتذكر. كل شيء غريب. على أيّة حال. الزمن يغدو غريباً. فهو سريع حينأا بل سرعتّه رهيبة؛ وخصوصاً حين تنسكب موجّزات الأخبار الإذاعية التي تورد تصريحاً لسيف الإسلام؛ ابن القذّافي يُعلِن فيه أن كل شيء سينتهي خلال ثمإنٍ وأربعين ساعة؛ أو تورد تقارير مُراسليها النادرين الباقين هناك الذين يستحضرون مشاهد من الرُعب وعائلات تنحشر في سيّارات للسفر إلى طبرق وفلولاً من اللاجئين المتدفقين إلى الحدود المصرية. وهو على العكس بطيء جداً حيناً آخر حيث تستمرالدقائق ساعات كمثل غيوم ثقيلة تتأخر في الانجلاء ‏ حين أحاول الاتصال ببنغازي أو أفعل تحذيراتي على تويتر وفيسبوك عن ليبيا. فمن سينتصر في سباق السرعة بين الدبّابات من جهة ومن جهة ثانية؛ تبني مشروع القرار الذي كان ساركوزي يُكلّمني عنه قبل قليل لكن في الوقت الحاضر غير مكتوب وغير مطروح وغير مُصوّت عليه؟

اليوم الأطول؛ ثلاثة أحاديث مع الرئيس عن الكارثة الوشيكة

يوم غير معقول. قد يكون هذا اليوم هو الأغرب منذ بداية هذه القصّة. كنت في الثامنة والثلث على موجات إذاعة "فرانس أنتير" مع باتريك كوهين. أعتقد أنني كنت أمثّل كل أولئك الذين يرون قدوم هذه الكارثة المُعلنة وعدّم قُدرتنا على منعها. ثرتٌ واهتجتٌ. تكوّن لديّ انطباع بأنني أكثر من أيّ وقتٍ مضى أعيش من جديد ساعات نحس البوسنة وأستعيده بالمقابل لأعبّر عن ذلك، كلامي في تلك الفترة عن القائلين بمذهب نوربوا أقصد الذين يُعارضون أيٍّ نوع من التدخل أنصارٌ إيديولوجية وزارة الخارجية الفرنسية. كدتٌ على امتداد الُقابلة: أضرب ذاتٌ اليمين وذات الشمال مُعرباً عن أسفي على صمت الاشتراكيين الُمطبق الذين ينبغي أن يفهموا على أقلّ تقدير, أنَّ ثمة مواقف يجب أن ترك فيها المشادَات السياسية جانباً وأن يقبلوا بدعم رئيس يذهب في الاتجاه الصحيح وذلك مهما كانت الخلافات كبيرةً معه. في القسم الثاني من البرنامج؛ المُخصّص للمُستمعين انبثق صوتٌ يقول لي شيئاً لم أتبيّنه إلا بعد عدّة ثوانِ: صوت وزير الدفاع السابق بول كيليس يقول إِنّهِ يتفهّم غضبي لكنه يعترض على فكرة صمت الاشتراكيين إذ كانت الأمينة العامة للحزب مارتين أوبري حتى قبل ساركوزي أوّل من دعا إلى التدخل في ليبيا. وحين خرجت من الاستديو وركبت سيّارتي بحثتٌ عن رقم هاتفه. اتصلت به. لم أرّه منذ ثلاثين عاما منذ فترة مجموعة الخبراء البعيدة؛ ويبدو لي أنّه كان يهتمّ فيها من أجل فرانسوا ميتران وبعد شارل هيرنو بقضايا عسكرية ‏ ومع ذلك اتصلتٌ به: «لا أهمية للخلافات الأبويّة الأمر عاجل. وإذا كانت مارتين أوبري أخذت حقّاً الموقف الذي ذكرْته فهيًا نرّها معا لنعمل على أن يُلاقي هذا الموقف الذي كان حتى الساعة غير مسموع به على نطاق واسع الصدى الذي يستحق»ّ. أخبرني كيليس أنه في بيته في منطقة تارن ولكنّه سيطلب من أوبري أن تتصل بي. وبالفعل تلقيت في الحال اتصالا ليس من أوبري؛ بل من مُستشارها فرانسوا لامي. الذي طرّح عل عدة أسئلة تقريباً الأسئلة نفسها التي طرحها ساركوزي البارحة وقال إِنّه سيّعيد الاتصال بي سريعاً. إنها العاشرة صباحاً. كنت في الطابق الأوّل من فندق فلورأناقِش مع دانييل كوهين ‏ بنديت نداء الْفرصة الأخيرة الذي أريد إطلاقه منذ أمس بين المثقَفِينَ الألمان والفرنسيين والذي هو وحده يستطيع أن يُعِدَّهِ معي تأثّر بذلك كان أقلّ تمكناً من المُعتاد لكنه تأثّر. وهكذا من دون أن أؤمن بذلك حقٌ الإيمان وإذ تملُكني شعور بأنني أقوم بنوع من معركة يائسة كتبنا قائمة من أسماء شخصيات سنتصل بها بدءاً من هذا الصباح؛ وهو خصوصاً إلى فرانكفورت وباريس كي نحمّلهم مسؤولية نجدة أخيرة. وفجأة يُنشر في جريدة لوبوست خبر عاجل طويل بعنوان «هل سمعت مارتين أوبري هجوم برنار ‏ هنري ليفي على الحزب الاشتراكي قبل أن تدفع حزبها ضدٌ المجتمع الدولي؟». يبدأ الخبر بهذه الكلمات: «بينما تقوم قوّات القذّافي بدحر الثوّار» وبينما تبسط الأمم المتحدة في اتخاذ قرار الحظر الجوّي على ليبيا أطلقت رئيسة الحزب يوم الخميس خلال زيارة إلى سانا لدعم مُرشّح الحزب الاشتراكي في الانتخابات المحليّة في الفال ‏ دواز هذا الكلام ‏ ويُعيد لاحق تصريح أوبري الآتي: "أفكر بليبيا التي لا أحد يتحدّث عنها تركنا القذّافي يفعل ما يُريد واليوم؛ الأمم المتحدة لا تملك القّدرة ولا الشجاعة على التصرف أشعر بالخجل من موقف أوروبا من موقف مؤْسّساتنا الدولية فنحن نتّفْق على مُساعدة صيارفة بنوكنا لا على مُساعدة شعب آسفة على هذا الهجوم: غير أني أفكر بليبيا ليل نهار." أمَا وكالة الصحافة الفرنسية فأضافت أن مُحافِظ مدينة ليل ذكّر بأن الحزب الاشتراكي كان قد طالب منذ 27 شباط فبراير بمنطقة حظر جوّي ووجّه خاصّة «بالمقارنة مع سلبيّة المجتمع الدولي»؛ في الحرب الإسبانية ‏ مُشْدّداً على أنْ «العالم أجمع قال إِنَّ ما حصل مع فرانكو ليس مقبولاً لكننا تركناه يفعل: وهذا ما نفعله اليوم». قال داني إنها ضربة مُعلّم. وأظنْ أنا أيضا أنها مناورة سياسية ناجحة. لكنْ ‏ لا؟ ومن يدري ولكون السياسة هي السياسة والتنافس يغذي التناُفس إن كان هذا التصريح سيّضيف إذا دعت الحاجة؛ شيئاً إلى عزيمة الرئيس؟ الساعة الثانية بعد الظهر بعد أن أنهيت تناول طعام الغداء مع ماتيو تارو رن هاتفي. إِنّه الرئيس. لكنّه رئيس مختلف. لأنّه استعاد حبّه للمواجهة التي كانت لديه الأسبوع الماضي. أعلن لي أن سفير فرنسا في الأمم المتّحدة "جاوّز" كما كان قد قال لي مُغمغما نظيرتّه الأميركية بتقديمه قبلّها مشروع قرار صارم. قال لي لكني فهمتٌ هذا وأنا أرى برنار غيتا هذا الصباح في أستوديو فرانس آنتير يمضي مُصرّحاً يعاون باتريك كوهين بأنه كان ذاهباً مع جوبيه غير أن تغيراً غريباً في البرنامج حصل قبل قليل ‏ حرفيا حول اتجاه الوزير الذي كان يجب أن يذهب إلى برلين لكنّه أمره بأن يتوجّه إلى نيويورك للدفاع عن مشروع القرار الفرنسي. وأظهر لي خاصّة ورقته الأساسية في التفاوض الذي بدأ توآ حديث مع ميديبديف وأقنعه بالامتناع عن التصويت مُقابل أن تُضاف على مشروع القرار: عبارة تُلِزِمنا صراحةٌ بعدّم إرسال جيوش إلى الأرض الليبية. فهل يُمكن أن يعتمد مستقبل ليبيا ومستقبل العالم العربي ومستقبل العالم على مُفاوضات صُغرى وبالتالي على مُفاوضات صُغرى من هذا النوع؟ الساعة الثامنة والنصف مساء تناولتٌ طعام العشاء وحيداً من دون شهيّة كابساً الأزرار لأنتقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى أجول على شبكة الانترنت بحثاً عن أخبار طريّة. فالحق أن العام كله ينتظر دخول كتائب الموت إلى بنغازي. المسألة بحسب قناة CNN مسألة أيام، وبحسب الجزيرة مسألة ساعات، لكنْ النهاية لم تعد مثار شك عند مُعظم الناس... فوجّه الرئيس نداءً جديداً وزمجر بالقول المستشارة الألمانية "فجيعة" من الحذر. لكنّ ميدفديف سيفي بتعهّده، وساركوزي شخصياً أقنع رئيس جنوب إفريقيا والرئيس اليوناني. بحيث إذا قبل «هو جيانتو» الذي اتصل به هو شخصيا بعدم استخدام حق النقض «الفيتو» واكتفى بالامتناع عن التصويت وإذا ما استسلم أحد الأعضاء للاسترحام "ليس هناك كلمة أخرى" الذي وجهه فهناك فرصة ثمينة ليمرٌ مشروع القرار الفرنسي ‏ مُنتصراً بذلك على تعقيدات العدوانية والمصالح المتناقضة:؛ والتحفّظات التي تُعيقه من حيث المبدأ. أخيرا في مُنتصف الليل. انتظرنا على منصّة تاداي؛ حتى آخر لحظة لكن من دون جدوى ما انتهت إليه المناقشات في نيويورك ونتيجة الملاحقة الصاخبة بين المؤيّدين قرار التدخل وطوابير المصفّحات. نحن في لونتالامبير مع فريق من مجلة "لا ريجل دي جه" شيء ما يقول لنا هذا كله شديد البط هو من البط إلى حد أنه لا يبشر بالخير. وماريا دو فرانس وأرمين أريفي وجيل كولار يفكرون بمبادرة يُمكننا هذه المرّةَ أن نأخذها في نيويورك عندما يرن الهاتف. رئيس الجمهورية من جديد: «ما أزال مُستيقظأ وليس هذا من عادتي لكن يجب أن أخبرك بنفسي. لقد تم تبني القرار. نعم» تم تبنْيه. هذا نصر كبير لفرنسا وهو نصر كبير خاصةٌ لليبيا التي أصبح شعبها من الآن تحت حماية المجتمع الدولي. تخلّلت هذه المكالمة المتأخرة وهي الثالثة اليوم؛ كلمات تُعبر عن الفرح لقد قاتلتُ أنا سعيد؛ وعن الاعتراف بالجميل «كان يوما رائعاً»؛ وعن تقديرات أكثر سطحيّة (إذا قرّر أوباما المشاركة أم لم يُقرّرها سأتصل به لتهنئته(: وعن فضول (الظنون حولي وعًlا إذا كنت متأكّداً من أن كوهين ‏ بنديت مثلاً مؤيّد للتدخل العسكري وأخيراً عن النغمة الحادّة لقائد حر كان مُجِبرأً اعتباراً من هذه اللحظة:؛ على اتّخاذها عنده سلّفاً فكرة عن أرض المعركة والجبهات وقد كلّف بالعمل مُعاونه الخاصٌ وجنرالاته وسيكون بين يديه؛ بدءاً من صباح الغد خطة ضربات عسكرية يجب أن تنفذ فوراً إذا أردنا إنقاذ بنغازي.

الجمعة 18 آذار/مارس (الحرب؟) يوم سهرة الاستعداد. أعرف أن الطيّارات الحربية في طريقها إلى ليبيا. وأنها لن تكون جاهزة «فوق مناطق الحظر» إلا غدا السبت بعد القمّة التي دعت إليها فرنسا والتي إذ تجمع ممثلين عن بلاد غربية وعربية؛ ستنتهي بإعطاء شكلي للتحالّف الذي سبق تكوينه من أعلى شرعية دولية ممكنة. فكيف سيتصرّف القذّافي؟ هل سيمتلك حكمة الاستسلام؟ أمْ أنه سيستمرٌ في التقدّم ويجعل التدخل حتمياً بتحدّيه للمجتمع الدولي؟ تقول آخر الأخبار إِنّه يُمكِن أن يُعلن وقف إطلاق النار. لكن على الكورنيش حيث تمكنتٌ من الاتصال بأحد معاوني عبد الجليل قيل لي: هذه مُناورة والكتائب سوف تستمرٌ في الزحف. قضيتٌ الليل من جديد في الكبس على الأزرار والانتقال بين CNN والجزيرة والعربيّة؛ ومُتابعة رسائل محمّد نابوس على التويتر ومحاولة الاتصال من جديد ببنغازي حتى الفجر..

السبت 19 آذار/مارس (فرنسا انقذت بنغازي) بدأت العمليّات... ثلاث مكالمات هاتفية مع الرئيس. / الأولى قبل موعد الغداء تماماً حيث كانت القِمّة على وشك الانعقاد في الإليزيه. «سيكون الجميع هنا. بان كي مون وهيلاري كليتتون: والنرويجيون» وهذا جيّد لأنهم ليسوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي. أعتقد أنني نجحت أخيراً في إقناع أنجيلا ميركل بالالتحاق بنا ‏ مُقابل تعديل في النصّ أعددناه معاً حيث نعترف بحرية كل بلد في أن يُطْبّق بطريقة مختلفة القرارات التي يُمكن أن تتبناها الأمم المتحدة في قضية ليبيا. ستكون قطر حاضرة؛ لن يأتي :الأمير الذي سبق أن جاء أمس سِرَأ ليُجهّز آخر تفاصيل العمليّة بل سيأتي رئيس وزرائه الممتاز. المشكلة البسيطة الوحيدة هي تلك التي أثارها ممثّلا السعودية والإمارات. فهما لا يُريدان أن يجلسا عل الطاولة نفسها مع هيلاري كلينتون بسبب مُساندتها للمتمرّدين في البحرين. لكنهها وصّلا أخيراً. وهذا هو الجوهري. فهذه هي المرّة الأولى التي تتحرّك فيها مثل هذه الجبهة من بلاد الشمال والجنوب من أوروبيين وعرب ضدّ ديكتاتورية. كانت المكالمة الثانية قبل الرابعة عصراً بقليل. فقد انتهى الغداء توّاً. بدا الرئيس أكثر توترآ وقلقا تنم لي المكالمة: هذه المرّة عن بداية وشيكة للضربات العسكرية. "حان وقتها." كل المعلومات التي تصلنا تُشير إلى أن القذّافي سخر منا بادعائه وقف إطلاق النار وسقوط بنغازي؛ ونحن نتكلّم الآن ليست إلا مسألة ساعات. وربما مسألة دقائق إذا لم نتدخل. لكنْ هنا تدخلنا سيتِم. وسنكون فوق مناطق الحظر في الوقت الُحدّد. والطيّارات الفرنسية هي التي ستبدا القصف أوَلاً. ثم الطيارات الكنديّة والأميركية غداً. وفي الساعات اللاحقة تصل الطيّارات العربية. ولم لا تأت فوراً؟ لأنّ عندهم مشكلة طيارين. لكن لا أهمية لهذا أبداً. هم وراءنا يدعموننا دعما كاملاً. وأخيراً جاءت المكالمة الثالثة قُبيل الثامنة مساء. كانت هادئة: «تمّ تحييد الكتيبة الأولى وقد دمّرنا قبل ساعتين سيّارة مُصفحة. وهنا تغدو العمليات أكثر أهمية. إذ يتصل الأمر بتدمير أربع دبّابات» الدبابات الأربع الأولى التي كانت على أبواب بنغازي. وطيّاراتنا هي التي قصفت في المرّتين. الطيّارات الفرنسية. وسوف نتابع القصف طيلة الليل إذا لزم الأمر.. كانت معلوماتنا جيّدة. لم تكن المدينة قادرة على الصمود ليلةً أخرى. فاعتقدت كتائب القذّافي بسقوطها وبدأت تظهر في ضواحيها. وهي الآن تستسلم. الخوف غَيَّر المعادلة. هذا رائع".

الأحد 20 آذار/مارس (حيث يظهر أن ليبيا ليست العراق) رسائل «تهاني» نصيّة... قيل كثيراً: إنه لأمرٌ غريبٌ أن يتلقى مُثقف التهاني على حرب تبقى مها كانت عادلة حربا وستُخلّف بالتأكيد أمواتا وجرحى وأضراراً من كل نوع وتدميراً. الفكرة مُدوّخة. تُغرق المرء في هاوية من الحيرة. قضيتٌ بقيّة اليوم محبوساً في غرفتي لم أتصِل بأحد. ولم أجب عل اتصال أحد وخصوصاً على الصحفيين الذين قرؤوا مقال رونو جيرار الذي نُشِر أمس في جريدة الفيغارو ويحاولون أن يعرفوا المزيد عن هذا الكاتب؛ الذي كان يُمكن أن ينجح. في نهاية ترابطٍ من المُصادفات والعناد في إيجاد طريق مركز القيادة الرئاسية وفي أن يستصدر له قراراً من مجلس الأمن يُوافق لأوّل مرّة على التطبيق الكامل والعسكري لمبدأ التدخل.   الحق أنني لا أستثني إلا واحداً. بوتِل. ميشيل بوتل. اتصلت به قبل قليل؛ بعد الرسالة النصيّة الجميلة والغريبة التي أرسلها لي بعد عدّة دقائق من أؤل قصف لضواحي بنغازي. قال لي فيها: "يا برنار. نعرف منذ القديم أنَّ ما فعلنا بحياتنا وبهذه «الجبريّة» أي طَبْعنا سوف ُيجابه ذات يوم الحدث الذي سيناقضه. ويُزعجه؛ ويُعاكسه ‏ أو بفعل مُعجزة: يؤكّده ويحمّسه ويُمجّده. وها أنت للتوٌ تنجح في الامتحان الكبير. وما كنت قد خلقته من قبل يتحقّق الآن. كنت أحياناً غير مُتفقَ معك ومُنرْعِج أحياناً أخرى. واليوم؛ أقصد هذه الأيام التي نعيشها أنا سعيد بأني التقيتٌ بك وأننا صرنا صديقّين عجيبّين غالباً بعيدّين لكننا قريبان في كل الظروف الجديّة. لك قُبلاتي يا ميشيل". أجل يا صديقي العجيب. حقَّا لم نتقابل كثيراً في الفترة الأخيرة. حتى إنني فجأة لم أعد أعرف إن كنت ما أزال عضواً في المجموعة الصغيرة أدفع اشتراكاتي للجمعية المؤسّسة بحسب قانون 1901. التي أنشأتها نساءٌ سابقات وسيّدات لضمان المحافظة على التراث الوطني مما آل إليه في نظرهنٌ. لكني أتذكّر اللامتوقّع.أتذكر المكانة التي احتلّيتها في حياتي قبل الآخرين وأكثر من الآخرين «كأفضل صديق» أصيل. أتذكّر الزمن ‏ البائد الآن طبعاً ‏ الذي كان خلاله يفتنني إلى أعلى حدٌّ بذكائه وبجانبه العبقري وبطلاقته الفائضة وبأسلوب حياته وتفكيره.. رسائله النصية هي أكثر رسالةٍ أسعدتني من بين الرسائل التي تلقيتها. في ما عدا هذا راودتني أفكار غائمة. قضيّة الحرب هذه. إنها للمرّة الأولى الحرب؛ الحرب الحقيقية وهي إذا تجاسرت على القول الحرب فعلاً. كنت حتى الآن أدافع عنها. وأدعو إليها. كنت أزدري دُعاة السَلْم على طريق اللواء بيتان والأوغاد الذين يظنون أن فاشية صُغرى أفضل من حرب كبرى. لكني لم أكن أخاطر كثيرا لأنني كنتُ أعرف أن الكلمة الأخيرة ستكون. في آخر المطاف للسِلّم وأنّ العالم مهما علا صراخ أناس مثلي سيبقى منقسما من جانب، بين سكان ميونيخ الذين يُفضّلون يقين العيش نائمين على الموت ناهضين وحماة الديمقراطية الذين يقبضون أرباح شرفهم من دون أن يُخاطروا برؤية نداءاتهم خاضعة لامتحان الواقع من جانب آخر. لم تكد هي الحال هنا. فالحرب اندلعت حقّاً. ومن حقّي ألا أنخدع. ما معنى حرب عادلة؟ منذ بداية حديثي عنها... منذ الزمن الذي كنتُ أبحث في موضوعها...أقول: تجد الحربٌ العادلةٌ نفسّها إذا اعتقدنا بمن ولدوا مفهومها بدءاً بالقديس أوغسطين., وتوما الأكويني وانتهاء بغروتيوس في ثلاثة ملامح أساسية تبدو جميعٌها متلائمة مع هذه الحرب الليبية. 1 - نبل القضيّة: أليس إنقاذُ شعب مدني من مجزرة مُعلّنة: نمطا أمثل للحرب العادلة؟ 2 - الملاذ الأخير: من يُنكِر مع وجود الدبّابات على أبواب مدينة بنغازي وتقدّمها على الرغم من الُمُفاوضات السياسية والعقوبات الاقتصادية والجهود الدبلوماسية انطباق هذا بحٌّق على حجة الملاذ الأخير؟ 3- التناسّب في النتائج الأخيرة أي فكرة أن تكون الأضرارٌ التي تُسببها الحرب أقلّ من الأضرار التي تمنع قيام الحرب: هنا تتعقّد الأشياء هنا حيث لا أحد مُتأكّد من شيء ‏هنا حيث لا يبقى الرجاء والصلاة لمن استطاعوا إلى الصلاة سبيلا. لماذا هذه الحرب لا حرب العراق التي طالما أدنتها أنا شخصياً؟ هناك أربعة اختلافات بين الحربين. بل خسة. خمسة أسباب موضوعية وواضحة؛ ولا نقاش فيها تُشير إلى أننا في نمطية مختلفة وأن حرب ليبيا مُعاكسة للحرب على العراق. 1 تفويض من الأمم المتحدة مصدر الشرعية الدولية اُلمسلّم بها. 2 تفويض أخلاقي قوي منحَنّه الجامعة العربية التي لا ينبغي أبداً نسيان أنها كانت حاضرةٌ على الفور هنا مع الغرب لإدانة عدوان القذافي على شعبه. 3 حضور مجلس وطني انتقالي يستحِقٌ الوجود. ويتمتّع بقاعدة شعبية فعلية وبمظهر أفضل من مظهر المؤتمر الوطني العراقي البائس الذي كان يرأسه شلبي. 4 . ثورة ديمقراطية سبقت التدخل الذي جاء للمواجهة وليس للتحريض - وهذا أيضاً يُغيرٌ كل شيء! 5 ليس في حرب ليبيا جيوش على الأرض ولا جيش احتلال ‏ وهذا إذا احترمنا شعب بنغازي وإذا توصّلنا إلى حمايته وحتى إلى إسقاط القذّافي من دون أن نكون مُجبرين على إرسال جيش غاز سوف يُنجز تفرّد هذه الحرب. ويُميّزها عن الحروب التي قام بها الغرب حتى الآن. لهذه الأسباب مجتمعة ميشيل بوتّل على حقٌ. ولاشك أن الحدث العظيم هو هذه الأسباب ولغيرها الموعد الأكبر في حياتي الثقافية والسياسيّة. فما الأسباب الأخرى؟ أوه! ثمة أسباب كثيرة... وجوب التدخّل المشهور الذي أدافع عنه منذ أكثر من ثلاثين عام ورُبّما هو في طريقه إلى أن يتحقق... هذه القذارة السياديّة هذه القذارة الإيديولوجية التي تكون الكلمة الأخيرة بحسبها دوماً للأوطان؛ والتي ما إن تُرتكب مذبحة أو جريمة ضد الإنسانية أو قتل جماعي في الغُرَف المغلقة لوطن ذي سيادة ولا تنتهك سيادة وطن مجاور فليس وارداً التدخل ربما هذه الإيديولوجية بصدد معرفة أول هزيمة تاريخية. .. خط المْنحدّر الآخر هذا الذي هو أيضاً في حياتي على الدوام رفض الحتميّة الجغرافية: حين كنت أذهب وأنا طالب شابٌ في المدرسة العّليا للأساتذة؛ لدعم البنغلادشيين ضدّ برعم القتل الجماعي الأول الذي لم نشهد مثله إلا في اوشفيتز حين كنت أذهب إلى دارفور إلى أنغولا وبوروندي وحين كنت أدافع في صحراء نسبية؛ كي لا ننصاع لتقسيم الإنسانية الشنيع إلى شعوب بَرهميّة تتمتّع بكل الحقوق والامتيازات وشعوب لاتمُسَ مُعذَبةٌ الأرض والحرب وملعونة...ثمّ مسألة العلاقة بين اليهود والمسلمين نقطة الرُعب التي وضعتها لنفسي طيلة حياتي بألا أفكر انطلاقاً من سُلالتي وأن أُمُدٌ يدي: حين يقضي اليهودي الذي أكونه سهراتٍ كاملة مع بيغوفيتش في سراييفو المدمرة؛ لمناقشة العلاقات بين الإسلام واليهودية حين كان يُدافع في جامعة بيرزيت أو حول خطة جنيف عن دولة فلسطينية وفي الوقت نفسه عن وجود إسرائيل وحين كان يهب ويهبٌّ الآن لنجدة الشعوب المسلمة التي تضطهدها شعوب غير مُسلِمة: وأحياناً شعوب مُسلِمة أخرى. فماذا كان يفعل؛ في الواقع؛ غير أن يُحضّر نفسّه لهذا الموعد العظيم الراهن؟

علي ومنصور

تلقيت في الحقيقة اتصالاً هاتفياً أمس مساءً اتصالاً واحداً من ليبيا يُشير لي إلى وجود تمركز كتائب ومُصفحات في الجنوب ويرجوني أن أوصل الإحداثيات إلى الإليزيه. دوّنت هذه المعلومات وأرسلتها في رسالة نصيّة إلى ليفيت وحدّدت موعداً في الصباح لليبي كي أتعرّف عليه شخصياً وكان هناك في الساعة المُحدّدة يُرافقه أحد أصحابه. الآن عرفت مَن يكون! أجل! لم أفهم شيئاً على الهاتف أمس. لكنني الآن عرفته! إِنّه أحد الثلاثة الذين زاروا ساركوزي ذاك الذي كان يقابل الرئيس على يمين محمود جبريل وعلى يساري ‎‏علي زيدان! يلبس الطقم البنّي نفسه بتفصيلته الممتازة. نظاراته الحرشفية السميكة نفسها التي ألاحظ الآن أنها تُصحّح عدّم تماثّل خفيف في النظرة. حركته دقيقة. صوّته صافي أرَنّ. شعره أصهب قصير ينمٌ عن أناقة يعيش في ألمانيا منذ سنوات. يُدير أعماله في المواد الطبيّة وفي الوقت نفسه يترأَسٌ الفرع الليبي للاتحاد الدولي لجمعيّات حقوق الإنسان. وبعبارة أخرى: هو مُعارض كامل. كذلك الرجل الذي يُرافقه. مُكتنز غير رشيق يُشبه تشرشل قدآ عملاق يعوم في لباس أوسع من جسده؛ يعيش في فلوريدا ويحمل جوارٌ سفرٍ أميركيّا بالإضافة إلى أنه يتكلّم فرنسية رائعة. لماذا؟ اسمه منصور سيف النصر. ينحدر من أب كان آخر شخص من منطقة فزّان تحالف مع الفرنسيين ورفض الاستقلال وبالتالي تقسيم ليييا الذي كان الفرنسيُّون يمنحونه إيّاه. عمره ثلاث وستون عاما قضى منها اثنين وأربعين في المنفى. شرح لي تاريخ بلاده. حكى لي عن جرائم العقيد غير المكشوفة. قال لي أيضاً إن له عما كان وصيّ «القائد» العتيد وبالتالي كان من أولئك الذين عرفوا بعد الانقلاب أن البلد ماض إلى الكارثة. حين جاء صحفيّون من تلفزيوني القناة وقناة فرنسا الأولى عرفوا مكانهما فجاؤوا لمقابلتهما اكتشفتٌ عند كِلَّيهما مهارة في استخدام وسائل الإعلام راقتني كثيراً. وعلى الفور صارت علاقتي معهم متينة. لا أفهم تماماً دورهما في كوكبة المجلس الوطني الانتقالي لكنّي شعرت تجاه كل منهما بالتعاطّف المباشر بردود أفعال مُشتركة؛ وتفاهّم كامل . فطلبتٌ منهما أن تُجِمّعا حولهما غداً برعاية جريدة "لاريكل دي جه" لقاءٌ غير رسميّ مع أصدقا صحفيّين ومُثقَفِين ورجال سياسة لا مؤتمراً صحفياً..

الثلاثاء 22 آذار/مارس (وجه ليبيا الحرة) مؤتمر صحفي في فندق رافاييل. رجُلان. نعم مجهولان لم تطأ أقدامهما ليبيا منذ عشرات السنين وليساء بحصر المعنى عضوين في المجلس الوطني الانتقالي. حاولتٌ ماريا إقناع أحدهما هو زيدان بأن يترك الغموض مخيما على ظهوره في المجلس وثانيهما هو سيف النصر بألا يُلح كثيراً على حقيقة أنّه لم يعُد إلى البلد منذ أربعين عاماً. لا نستطيع أن نفعل شيئاً فهما بالإضافة إلى ذلك نزيهان في كل امتحان. وكانا في الواقع على حق لأنهما خلال ساعتين سَيجيبان أمام بعض الصحفيين الأفضل معرفة بها يجري والأقل مُجاملة في باريس وأمام كل ما يُمكن أن يوجد في المدينة من شخصيّات بارزة على الأسئلة ويتجنبان الفخاخ مجسدين ألوان ليبيا الحرَة تجسيداً رائعاً. وكانا فصيحين في جوابهما على سؤال "يان مواكس" حيث وصَفا صَلْب بلدهما تحت كم القذافي يحرّكان المشاعر وهما يوجّهان الشكر لفرنسا على تدخلها المواتي. وكانا ماهرّين حين حاول "ايمانويل جاري" من وكالة رويترز محاصرتهما بموضوع تقلّب ساركوزي الذي دعا إلى باريس قبل أربع سنوات ذاك الذي يحاربه اليوم. لم يرتبكا في الحقيقة إلا أن خطأ واحداً مرّ من دون أن يلحظه أحد: حين سئلا ماذا سيفعل الحكام الجُدد بعقود النفط الموقّعة حاليا إذا انتصروا فأجابا من دون استعراض وببساطة ومرّة أخرى أقول بنزاهة تصل إلى حدّ السذاجة: بأئّهم سيلتزمون بها لكن ليس من دون منح مُكافأة للبلدان التي ساعدهم كثيراً كفرنسا. لو قيلت كلمة زائدة في هذا الموضوع وجرعة إضافية من سوء النية بين الحضور لكتبتْ الصحافة غداً بالعنوان العريض «حرب البترول». لكنْ لحسن الحظ توقف الأمر هنا. ضغطتٌ بحركة خفيّة قدّم زيدان فأنهى كلامه عند هذه النقطة. أشعر أنني سوف أَحِبّ هذين الرجلّين. شهامة” السيّد سيف النصر ونظرة الطفل التي ينظرُها علي زيدان أحياناً.

يتواصل

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح 4
الأحد, 14 فبراير 2021 21:55

الاثنين 7 آذار/مارس (ذات صباح: 8 الأليزيه)

الساعة العاشرة صباحاً. لم يتوفّر لي الوقت إلا بالكاد لآخذ حماماً سريعا وأحلّق ذقني, وأْبدّل قميصي بآخر نظيف. وها أنا الآن. في الإليزيه أمام هذا الرئيس الذي تربطني به علاقة متميزة هو خصمي طبعاً. هو رجل لم أَنتخبّه ولن أنتخِبه العام القادم. ولم أتوقّف منذ أربع سنوات: عن النضال بشدّة ضدّ سياسته في كل القضايا تقريباً (وهذه علامة لا تخدع أبداً: لاحظتٌ أنني لم ألتق به على انفراد منذ ذلك اليوم من شهر حزيران/ يونيو عام 2008 قبل حوالى ثلاث سنوات حيث كان قد طلب مني أن آتي إليه لأحدّثه عن آرته ‏ ولم يكن لقاؤنا انفرادياً لأنّ «آلان مانك» الذي رتب اُلمقابلة كان حاضراً!. لكنّ بيننا صداقة في الوقت نفسه. صداقة قديمة جداً تعود إلى أوّل انتخاب له وهو في الثامنة والعشرين مُحافظاً لمدينة نويّي. كنت ناخباً في نوتي. دعاني إلى الغداء ومن ثم تولدت بيننا علاقة تميّزت بلحظاتٍ جوهريّة من الرفقة لحظات البعثة التلفزيونيّة التي دافع فيها عنّي وعن «غلوشهان» ضد طارق رمضان, أو الأهمّ خلال حرب البوسنة حيث كان بالأحرى واعياً بيوميّاتنا بمشاهد السيرة وأخيرا بالجنس السردي الذي لا يُنْسَى. زواج أحد الاخوة... هذا الصباح المنحوس من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر حيث تغور الأرض تحت أقدامكم: وحيث تعتقدون أنكم سوف تموتون أيضاء وسبق أن أجابوكم بأنه لم يعد ثمّة من مكان؛ ولا حتى قبر صغير في مقبرة نوتي القديمة لوالدك الذي توفي قبل حين ‏لحسن الحظ أن ساركوزي كان موجوداً... باختصار. إِنّها حرية علاقة وتقارب راسخة في هذا الماضي لم تنقطع أبدا ولا شك أنها سهّلت الحديث الهاتفي المدهش أوْل أمس والحديث الذي لا يقِلّ إدهاشاً الذي سَنجريه الآن مُباشرةً (علامة أخرى تعبر كثيراً عنه لكنّ هذا في الاتجاه الآخر: هذه المخاطبة بضمير «أنتّ» الْمزْعِج تقريباً، حقيقة أن يكون أوّل رئيس جمهورية . مع احتمالٍ كبير أن يكون آخر رئيس جمهورية ‏ يخاطبني وأخاطبه بهذا الضمير. أراقبه وهو يدعوني للجلوس واقفاً أمامه في هذا المكتب الواسع الذي سبق أن أتيت إليه للدفاع عن قضايا أخرى لدى رئيسَين؛ بل لدى ثلاثة من رؤسائه. الرئيس جيسكار الذي لم أعُد أتذكّر زيارتي له بوضوح؛ ويصعب عل مُطابقة الصّوّر. كنا بصحبة موريس كلافيل وكلود ‏ ليفي ستروس وجان ‏ لوك ماريون أتينا نحدّثه عن جملة أمور عن حالة رانوتشي وعن مسألة الحكم بالإعدام. أتذكّر فقط سيّداً على قذْرٍ رفيع من التربية ساه قليلاً كان يبدو مُركُزاً على فكرة وحيدة هي أن يدقق فينا واحداً واحدا مخصّصاً لكل منا العدد نفسه من الثواني بانتظام كانتظام الساعة. فيما يتصل بالرئيسَين الآخرّين الصّوّر بصراحة: أوضح بكثير ولا أستطيع الامتناع عن المقارنة. ميتران الذي أتيثّه إذاً في ظروفي مُشابهة لأنقل طلب النجدة من بيغوفيتش: كان مُتحصّناً وراء مكتبه. كما لو أنه يُريد أن يضع أقصى مسافة تمكنه ليس بيني وبينه فقط بل بينه وبين البوسنة أيضاً. أمّا شيراك فقابلته لأحدّثه عن موت اللواء مسعود وعن حركة الطالبان التي قتلته وعن هذا التقرير الذي طلبه مني حول مُشاركة فرنسا في إعادة تعمير أفغانستان ‏ وكان موقفه معاكساً لموقف ميتران: يوم مجيئي لاستلام طلب التقرير ثمّ بعد شهرين لتسليمه له كان قد اختار الجلوس على واحدة من الأرائك المخصّصة لزواره باذلاً أقصى جُهِدَه ليريحني ينهض باستمرار ويعود للجلوس. لِيْقَدّم لي زُجاجة ماء معدني «بيريبه»؛ ويسألني إن كنتٌ أريد فُستقا وحين أخذ هاتفي المحمول يرن في جيبي؛ نهض من جديد وتظاهر بالابتعاد ليتيح لي أن أردّ وقال: خذه لا تُزعج نفسَّك قد يكون هذا مُهما" ساركوزي وسّط بين الاثنين. لم يبقّ وراء مكتبه ولم يجلس على أريكة. ليس بارداً كميتران؛ ولا رفيق حميم مثل شيراك. يتصرّف تماما بما ينبغي من حذر مشروع وتشجيع ودّي على الكلام. بدأ بالقول: "شكراً عل مجيئك" أنا السعيد بتحقّق هذا الموعد. وبهذه السرعة. - قرأتٌ ما كتبتّ. ولكنْ ستحكي لي قليلاً بطبيعة الحال. حكيتٌ له عن بنغازي. عن غوقة. عن اللّغز عبد الجليل. عن المجلس الوطني الانتقالي الذي شهدتٌ ولادته. وعن العلّم الفرنسي على الكورنيش. عن الطيارة الورقية بألوان علّم فرنسا. عن مصير الربيع العربي الذي يحدث اليوم في ليبيا. وعن الاقتراحات الثلاثة أو الأربعة التي أقترحها في جريدة الأحد. : استمع إلي. لم يُقاطعني؛ أصغى إِليّ خلال عشر دقائق. هل هو مُقتنع سلفاً؟ وهو على أية درجة معلومات بالضبط؟ أَضفتٌ في جو من الريبة قليلاً. جبهة راس لانوف. شجاعة الشباب الفوضوية لكنّها الرائعة. يقين الناس في بنغازي بِأنّ كتائب القذَّافي إذا وصلت إلى داخل المدينة سيقتلون الجميع وسوف يُفيضون حقاً آبار الدم التي وعد بها سيف الإسلام. وشدّدتٌ على أنّ هذا ليس فرضية مدرسية بل مذبحة مُعلّنة. وهو إعلان إن صدّقنا المعنيّين بها وأعتقد أننا يجب أن نصدّقهم ليس أبداً فصاحة خالصة. ومن جهة أخرى... هذه الكلمات التي سأنطق بها الآن لا أملك أية فكرة عن الطريقة التي راودتني بها. وهي لا تُشبهني إلا قليلاً جداً... بل تُناقض جداً رؤيتي إلى العالم وتُناقِضني... ومع ذلك. أرى نفسي أربط في ما بينها ‏ أسمع نفسي ألفظ هذه الجملة التي كانت ستبدو لي في الظروف العادّية غريبة ببرود: ومن جهة أخرى هذا أمر بسيط جداً... إذا حدثت مذبحة في بنغازي. فسوف يُلطّخْ دم المذبوحين العلّم الفرنسي. وأنا لم ألفظ هذه الكلمات وحسب ومل أرَ فقط أنني أستقيها من بئر مجهول في داخلي بل بدا لي أنها تثير عند من يسمعها انفعالاً غير مُتوقّع . إنها في قليل "قصّة فرانسوا ميتران" وهو يتلقَى طلب النجدة من بيغوفيتش إذ حدّثته طولاً وعرضاً عن المدينة المحاصّرة. حكيتٌ له عن الأطفال الذين قتلّهم القنّاصة؛ والْمثقَفِين الذين يعقدون الندوات عن جان ‏ بول سارتر في أقبية البناية المقصوفة. حكيتٌ له عن الصحفيين الأبطال الذين استمروا على خط الجبهة في كتابة جريدة المدينة أوسلو بودجنج وفي طباعتها وعن اللواء اللامع يوفان ديفيجاك؛ المكلّف بالدفاع عن سراييفو مع أنّه من أصل صُربي. قلت له كل شيء. نوّعت في زوايا الهجوم. لكنْ لم أستفد شيئاً. لاشيء كان يبدو أنه قادرٌ على زحزحة عدم اكتراثه الجليل بمكان هؤلاء البوسنيين الذين يشعر حتى النهاية أنهم أقل قُرباً إلينا من الصّرببين. بقي كذلك حتى أيقظت جملةٌ بسيطة ومضاً في عينيه ثمّ سألني سؤالاً أو اثنين حدّد من خلاله أن القضية تبدأ من صاحب الشأن: إنها الجملة التي قلتها له هكذا على عجّل, لكنْي أدركتٌ أن التفاصيل هي التي سوف تُغيّر كل شيء في نظره؛ لأنه كان يُنسّق مجموع القصّة مع مشهد مؤسّس في مخميّلته وهي أن الرئيس بيغوفيتش المُحاصر قد يكون مات الآن ونحن نتحدّث جعلتني أفكر تفكيراً لا يقاوم بالصورة الأخيرة لسلفادور اليندي الملاحق ولكنه يقف بعزة نفس بقبعته المائلة على رأسه. ينتظر في القصرالرئاسي في سانتياغو الُدمّرة هجوم الفاشيّين التشيليين. هنا الشيء نفسه. هذا ما سوف يقعل فعله مع قصّة الأعلام الفرنسية الملطّخة بدماء الثوّار ومع سلسلة من العلامات الدقيقة ومض مُرتعش في النظرة ثباتٌ مفاجئ وعابر في الملامح. لدي الانطباع عينه بأنني لامست من دون أن أدري نقطة سريّة من النفس وجّعاً قديمأ لستٌ أدري قاطعني بالقول بصوتٍ أصم بغتةٌ: "حسّناً.‏ حسناً. فلنوقر الوقت. أعرف هذا كلّه. وأنا إنما أتلقّى تأكيد التقارير. من الواضح أنْه لم يعد ممكناً فرض الحظر الجوي. غير أنَّ قصف المطارات الثلاثة التي تُقلِع منها الطيّارات الحربية ثّم تشويش منظومات اتصالاتها هو الحل في الواقع.." وبرّم شفتيه كأنه أراد أن يقول: نرجو حتى في هذه النقطة ألا يكون الأوان قد فات. ثم ألقى نظرة على هاتفه المحمول الموضوع على الأريكة؛ الذي بدأ بالرنين وتابع يقول: "قد تكفي غارات على سرت وسبها وباب العزيزية: أجل. لكن يجب المضي سريعا سريعا جدا". ليس أمامه ملاحظات. لكني تنبِهت أنّ أمامه ملفاً. قال وكأنه يعترض على نفسه: "المشكلة الحقيقية ستكون سياسيّة, لكنّ الأولوية لهذا المجلس الوطني الانتقالي..." طبعاً؟ وافقتٌ على استقبال أعضاء منه. إذاً سوف أستقبلهم. السؤال الجوهري هو الآن: "ماذا علينا أن نتصرّف معهم؟ وعلى أي مستوى الاعتراف مثلا؟" يبدو أنه طرح على نفسه السؤال بصدق وما أوقف إيمانه في هذه النقطة. حينئذٍ حدّثتُه من جديد عن الانطباع الجيّد الذي تركه فّي هؤلاء الرجال. وعن أنهم قضاة قُدماء ومُحامون ورجال قانون: وحقوقيّون. وبيّنتُ له أيضاً الأهمية التاريخية التي سيكتسبها الاعتراف الكامل بالمجلس في حال حصوله؛ فقاطعتي فوراً: متى يُمكن أن يأتوا إلى باريس؟ لا أعرف... بسرعة فائقة... رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل يأمر بإرسال الشخصّين الُكلَفَينَ بملف السياسة الخارجية. الأوّل في الهند والثاني في القاهرة... أخرجتٌ من جيبي الورقة المزدوجة التي صوّرتها وفيها إعلان ولادة المجلس. كنت قد كتبتٌ بخطّ اليد بجانب اسم العيساوي: «مشكلة تأشيرة الدخول شينغن». أخذ الرئيس الورقة؛ وألقى عليها نظرة سريعة ووضعها جانباً وهناك أيضاً المشكلة السياسية الأخرى. فرنسا لا تستطيع أبداً أن تتدخل وحدها في ليبيا. قلت له: "أوه! هي ثلاثة مطارات..." فابتسم: حتى لو كانت فقط ثلاثة مطارات فهذا لا يِتِمٌ إلا بموافقة حلفائنا والأهمّ من ذلك لا يتمٌ إلا بتفويض دولي. والأدهى أن تُكرّر الخطيئة نفسها التي ارتكبها بوش في العراق. في هذه الحال؛ لن تُسامّح فرنسا ولن أسامح أنا أيضاً. لكنْ حسّناً... قام بحركة مُشَعوذٍ يحرج من قبّعتِه أرنباً. وينظر نظرة ثانية أقل حِدّة وأكثر طفولية من تلك التي سادت منذ بداية الحديث. هو ذاك يأتي هذا في الوقت الُمناسب. هناك اجتماع أوروبي يوم الجمعة القادم. ثمّ ستنعقد قمّة الثمانية في باريسء في 14 آذار/ مارس ... اعتراض آخر على نفسه: سيكون هذا مُتأخراً طبعاً ولن نتمكدن من الانتظار حتى قمّة الثمانية. إذاً سنحاول أن نتدبر أمر هذا بدءاً من يوم الجمعة. سنْكوّن إجماعاً أوروبياً. نتسلّح بهذا الإجماع ونذهب إلى الأمم المتحدة. وإذا لم ينجح هذا؟

سوف ينجح . رأى هيأتي المرتابة وسأل باندهاشٍ صادق: من يُمكن أن يعترض عليه؟ لا أدري ... ومن قال إِنَّ برلسكوني وميركل سيقتنعان بسهولة؟ أنا وأنجيلا ميركل مُتفاهمان كما ينبغي ولا يُمكِن أن تكون غير مُكترثة بعدالة القضية. إذاً جوبّيه هو العقّبة في هذه الحال... تظاهر بأنه لم يسمع وردّد القول: ميركل! كيف يُمكن أن أتَخيّل ميركل تقول لا في قضية إنقاذ الشعب الليبي؟ عدت إلى المشكلة:  ولكنْ جوبيّه؟ لم ننس الطريقة التي تصرّف بها في قضية البوسنة ثم في قضية رواندا. وسيكون حتماً ضدّ هذه القصة الليبية. ولن يكون جوبيّه إذا لم يقف ضدها عندي نصيحة أسمح لنفسي بأن أقدّمها: ننجز كل شيء من هنا من خلال الخليّة الدبلوماسيّة ولا نقول شيئاً لأحد ‏ نحتفظ بالْسِرٌ ونُخفيه حتى عن جوبيّه. تظاهر دوماً بأنه لم يسمع شيئا أو بأنّه لم يكن يفهم إلا نصف النصيحة: ما فائدة السياسة إن لم تنفع في تذكر دروس التاريخ واستنتاج الْعبّر منها؟ لن أكون مثل ميتران. ولن أكون الرئيس الذي تُرِك الليبيون يموتون في عهده. أفكر بسنة 2007. أفكر بذلك الحديث الذي خضناه قبل الانتخابات الرئاسية الذي نقلته فاتحاً خفايا الأمور الكبرى بالمقلوب. طبعا لم يكن يتكلم عن ليبيا بل عن حريّة الشعوب بشكل عام. وأنّ طموحه؛ فيما لو تم انتخابّه أنه سيقود سياسة خارجية واسعة مقياسها ضرورة حماية حقوق الإنسان. لم أهتمّ بذلك حينذ. وما آمنتٌ بأنه سوف يفي بوَعْده. ويمكن القول إِنّ كل ما استطاع القيام به منذئذٍ (بادئاً في شهر كانون الأوّل/ ديسمير بالاستقبال الفاحش للقدّافي) أو بعبارة أفضل لم يتوّف كل مالم يستطع فِعلّه أو لم يرد فِعلّه (عدّم وجود أية مبادرة في دارفور والتفاتة جميلة مُّزيّفة في جورجيا واليد لم تكن ممدودة باتجاه بوتين بأقلّ من امتدادها باتجاه الذي كان قبلّه) عن أن يجعلني على حقٌ. هناء فجأة لم أعد أعرف. ثمّة في طريقة تعبيره بالقول «لن أكون الرئيس الذي يترّك الشعب الليبي يموت في عهده» نبرةٌ من الحقيقة تقلقني. أستأنف القول: بالُمقابل العسكريُون سيكونون مع التدخل. هل يطول الأمر لا أدري. غير أنّ العسكريّين الفعلييّن أولئك الذين رأيتهم يتململون في البوسنة وأفغانستان ثم في تشاد أولئك الذين ملوا من البقاء بعيدين عن القتال أمام شعوب تموت؛ سوف يتلقّون خبر  التدخل بحماسة". أجاب لكنْ خارج الموضوع. كان حالِماً قليلآ وخارجٌ الموضوع.

"حين‏ أفكر بهؤلاء الناس جميعاً الذين سوف يقولون إنني أفعل ذلك لأغراض سياسية... فأنا لا أتوهم. فهذه الحرب لن تكون شعبية أو إن كانت كذلك فلن يدوم هذا وقتا طويلاً.لكنْ ليس هذا هو السؤال. ينبغي خوضُها". - وضع المدينة؟ أهِيّ مُهدّدة؟ قلقة؟ جاهزة لردّ هجوم القذافي؟ كيف؟ - نعم أعتقد أنها جاهزة. ينطبق عليها قول مالرو عن مدريد خلال الحرب الإسبانية: قدرة المقاومة السريّة العجيبة التي تمتلكها المدن. - والرّجال؟ -  أكثر يقظة مما تُبديه الصحافة. أكثر حزماً أيضاً. وجاهزون للقتال إذا أخلتٌ لهم قَوَة حليفة الجو وقدّمت لهم دعما جوياً جدياً. هز رأسه كأنما ليقول إن هذا أيضاً يُعزّز ما سبق أن عرّفه. سوف نتبادل أيضاً بعض الأفكار من بينها فكرة حسّاسة عن استقبال القذّافي سنة 2007 التي لمته عليها ويدّعي أنّه ليس نادماً أبداً؛ لأنّ هذه كانت وقتها أفضل طريقة لتخليص‏ الْممرّضات البلغاريات من الدعوى. لكنْ يبدو أننا حالياً يجب أن نكون مُتفقين. مبعوثو بنغازي ربطتٌ وأعدت ربط الأحداث فكرت وأعدتٌ التفكير بذلك المشهد المجنون الذي بدأ في شاحنة خضار صغيرة واستمر مع اتصال غير محتمل من هاتف ثريا مُعطَّلة وانتهى بقصة هذا العلّم الأزرق الأبيض الأحمر الذي كان سيحيرني توظيفي له بهذه الطريقة فيما لو لم أكن اتصوّر أني أنا أيضا خلافاً لآيّ توقع حسَاس تجاهه قليلا. لم أتكلّم مع أحد. وعدت الرئيس بالسرية. ويبدو أنه مُلتزم به وإذا علي الالتزام بوجود خاص. لا أحد يجب أن يعرف لا أحد إطلاقاً باستثناء جيل الذي يُتابع الاتصال ببنغازي ويحاول أن "يتعقّب" مبعوثينا ولحظة وصولهم إلى أوروبا. وأنا أنتظر.

الأربعاء 9 آذار/مارس (المبعوثون أيضأ) الأخبار عند جيل ومارك. المبعوثان هما جبريل والعيساوي الرَّجُلانٍ اللذانٍ أعلن اسمّيهما مكتب غوقة. بالإضافة إلى اسم ثالث هو علي زيدان رئيس رابطة حقوق الإنسان الليبية. الخلية الدبلوماسية في الإليزيه تتولّى كل شيء. سيكونون في باريس هذا المساء في فندق يقع في الدائرة الثامنة. سيصل زيدان من ميونيخ وجبريل من القاهرة. كلاهما قضيا نهارّي أمس واليوم في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ حيث التحق مهما العيساوي. وقد اسقبلت الوفد, باستثناء العيساوي الذي كانت عنده مشكلة تأشيرة الدخول. هذا العصر رئيسة الاتحاد السويسري في برن. ولم يتوفر لهم من.الوقت إلا ما سمح لهم تحديداً أن يلحقوا موعد آخر طيارة بين برن وباريس. إنهم هنا إذاً. . سيستقبلني وإياهم نيكولا ساركوزي غداً صباحا في العاشرة.

الخميس 10 آذار/مارس (عندما تعترف فرنسا بليبيا الحرة) الإليزيه. في العاشرة. نحن في صالة الاجتماعات الكبيرة المتصلة بمكتب الرئيس الذي كان مكتب آتالي عند المدخل على يسار الطاولة ساركوزي تُحيط به هنري غينوه وجان - دافيد ليفيت ومّعاونه نيكولا غالي. ومُقابلهم علي العيساوي وعلى يساره محمود جبريل وعلى يمينه شخص لا أعرفه استنتجتٌ أنّه علي زيدان ثّم أنا الذي جلستٌ تلقائياً إلى جانب علي زيدان. يشعر الليبيون بالخجل. الجوٌ رسمي.” لِلمُستشارين الفرنسيّين على نحو غريب هيئة مُرتبكة؛ وكأنهم لا يعرفون هم أنفسهم ما ينبغي أن يتوقّعوا. غينو خاصّة مُلتصق بكرسيّه كتفاه مُنكبّان إلى الأمام نظرته حارقةٌ في وجهه المكفهّر وطريقته الْمضحكة في إطلاق النظرات القلقة يميناً وشمالاً. وجه ساركوزي مُتوتر مكظوم لا أتعرّفه. هو الذي بدأ فضلاً عن أنه هو الذي سوف يتحدّث خلال الوقت الأساسي للمقابلة. قال: أعير تطوّر الأحداث في بلّدكم الانتباه الأقصى. وقد أعلمّني السيد برنارهنري ليفي بمُجريات سفره إلى بنغازي وبما رآه وبلقائه برئيس المجلس عبد الجليل. أشكركم على تحمّلكم أعباء السفر للمجيء إلى هنا. الحق أن المجتمع الدولي والتفت إلى جان ‏ دافيد ليفيت لا يستطيع أن يبقى مكتوف الأيدي إزاء ما يحدث في بنغازي وفي المدن الليبية الأخرى. بعضهم يتحدّث عن مُساعدات إنسانية: قولوا لي إن كنت مُخطئا لكن يبدو لي أن وقت الُمساعدات الإنسانية قد فات. وبعضهم يفكر بتدخل جوّي. بفرض منطقة حظر جوّي على طيارات القذّافي: فهمت على ما أعتقد أن هذه الصيغة أيضاً غير كافية إطلاقاً إذا تنبّهنا إلى تسارع الأحداث. لا أبدأ لقد وصلت إلى نتيجة ‏ وهنا أيضا أوقفوني إن أخطأت ‏مفادُها أن الحلّ الوحيد أمام العنف المتعاظم وامتداد الجرائم التي تُرتكب. إنما هي العملية العسكرية. أوه!‏ لن نعلِن الحرب ضدّ ليبيا. ولن نقوم بالثورة نيابة عن الشعب الليبي. فالفرنسيّون لم يحتاجوا أحداً سنة 1789 للقيام بثورتهم. وبالتالي لا أرى لماذا سيحتاج الليبيون إلى الفرنسيين أو إلى غيرهم للقيام بثورتهم. دعوني أقُل بالمناسبة إنني رأيت قصّة هذه القوّات البريطانية الخاصة التي دخلت بلادكم؛ من دون إذن وهي مُدجّجة بالسلاح. وكنتم على حقٌ بإعادتهم إلى مكانهم. لأننا لا نفعل هذا حين نأتي إلى أصدقائنا. نطلب الإذن وننتظر التأكّد من الحصول عليه لندخل بمعدّاتٍ حّساسة. إذأ أنا أستجيب هنا لدعوتكم. فهمت من خلال السهّد ليفي أنكم تُطالبون بتدخلٍ جوّي متواضع لزمنٍ محدود من دون جيوش على الأرض واستهداف الوسائل العسكرية التي تُسبّب للتجمّعات المدنية الأضرار التي يشهد عليها العام أجمّع. حسنا أنا مُوافِق. أقول لكم هذا باسم فرنسا أنا مُوافق على هذا التدخل الجزئي المحدود. الذي تطلبونه منا. يتعيّن فقط أن نضع شكله وأن يكون قليل من العالم معنا. أنا لا أتحدث عن فرنسا: القوى السياسية الكبيرة سوف تتبعني. لكنّ هناك شركاءنا الأوروبيين وسيكون في غاية الاهمية أن يُوافقوا ويلتحقوا بنا. وفي ما وراء أوروبا ثمّة المجتمع الدولي أليس كذلك؟ اسمعوني جيداً: بإمكاننا أن نتدخل تقنياً؛ فلدى فرنسا الوسائل التكنولوجية أعني العسكرية؛ التي تسمح ا بمثل هذا التدخل على الساحة الليبية. لكنني لا أتحدّث هنا عن التقنية؛ بل عن السياسة والدبلوماسية (يلتفت من جديد إلى ليفيت). وأفكر أيضاً بها سوف يكون غداة تدخلنا وبليبيا الجديدة التي ستخرج بعدّه. وإليكم سيعود أمرٌ معرفة الديمقراطية التي تبغونها وعلى أيّ إيقاع سوف تبنونها. لكنّي أعلّم (ويلتفت هذه المرّة إلىغينو) أن الديمقراطية هي أَفقكم. والديمقراطية تبدأ اليوم. تبدأ بإجماع دولي حول عدالة قضيتكم. حاول آخرون أن يستغنوا عنها ورأينا إلى أين قادّهم ذلك! إذاً الديمقراطية أَوّلا. وفرنسا إلى جانبكم. غير أني أطلب أن تمُهلوني عدّة أيام لأرتّب الأشياء وأتأكد من دعم المجتمع الدولي، وإذا لم أحصل على الدعم الدولي؟ إذا امتنع المجتمع الدولي خلافاً لكل التوقعات عن إدانة القذّافي والتحرّك ضده؟ لا يُمكن أن أتخيّل هذا. لكنْ في النهاية فأتخيّل ما لا يُمكِن تخيّله. لنفرض أن فرنسا لم تحصل على قرار من مجلس الأمن والأمم المتحدة. في النهاية فرنسا... لن تكون فرنسا على أيّة حال. لأنني سأتصرف بالتكاتف مع صديقي كاميرون رئيس الوزراء البريطاني. ولاحقأ سوف نستند إلى قرار موجود قدّمته دولة لبنان. لكن. لنتخيّل عدّم الموافقة على مشروع القرار. في هذه الحال فسوف نتجاوز ذلك. سوف نجد مع أصدقائنا البريطانيين وسائل أخرى ومنظات أخرى لتُعطي العملية شرعيّتها. الجامعة العربية مثلاً. وأنا عل اتصال دائم مع عمرو موسي. فهو يُتابع باهتمام شديد تطوّر الأحداث. وسنعمل على تكوين تحالف لهذا الغرض مع بعض البلدان الأوروبية والإفريقية ومع الجامعة العربية. سيكون أقلّ فاعليةٌ من الأمم المتحدة. لكنّه سيكون أفضل من لا شيء. لأنه سوف يسمح لنا بالتصرف. ومرّة أخرى أقول ليس هذا ما سوف يحصل. الملف تام. والتعاطّف كبير. ولا أشكَ في مقدرتنا الجماعية على تشجيع الرجال والنساء المستعدّين للالتفاف حول عملية حماية المدنيين. حينئذٍ‏ ستكون هناك بعض الأشياء التي أستطيع أن أقوم بها وحدي من دون انتظار موافقة أحد أيَاً كان. مثلاً الاعتراف بكم. فهناك قواعد بسيطة كما تعلمون. فلرئيس الدولة حقوق (قليلة) وعليه واجبات "كثيرة". والحال أنّ من أوّل واجباته ضرورة حماية شعبه. والقذّافي عجز عن القيام بهذا الواجب. حتى إِنّه ارتكب الأسوأ من هذا لأنَّ ضحايا القمع الذي أطلقّه تُعَدَ على ما يظهر بالآلاف. يبقى التأكد من الأرقام لكنها مهما افترضنا أعداد كبيرة. انطلاقاً من هنا ونتيجة ذلك. فقّد القذّافي حقٌّ إدارة البلاد. ولم يعٌّد يملك أيّة شرعيّة. لهذا السبب أنا من أنصار نقل الشرعية الكاملة نقلا عاجلاً بل فورياً إلى المجلس الوطني الانتقالي الذي ُتمثلونه. نقل ملموس سيكون سهلاً. سوف نعترف بكم بدءاً من اليوم؛ ممثلين شرعيين وحيدين لليبيا. وفي أقرب وقت (يلتفت من جديد إلى ليفيت)» مثلاً في نهاية الأسبوع القادم سوف نرسل لكم سفيرآ وسوف تُرسلون إلينا سفيراً. وأكرّر أمامكم رجائي بأن يلتحق أكبر عدد ممكن من بُلدان العالم بهذا الموقف الفرنسي ويعترفون بكم كسلطة شرعية لليبيا الجديدة. هل ينبغي أن تحتفظوا بسريّة هذا كله؟ يتظاهر بأنّه يمُكر ويطلب بنظرته رأي مُستشاريه. لا. لم يعد الآن من داع للاحتفاظ بالسرٌ. فالذين يعرفوني يعلمون أنني صادق الوعد. وبالتالي ليس عندي كلام مُزدوج. وإذا التقيتّم صحفيين في ساحة القصر عند خروجكم؛ بإمكانكم أن تقولوا لهم جوهر ما قلته لكم رُبّما باستثناء نقطة واحدة: فكرة الهيئة الشرعية البديلة في حال عدم موافقة الأمم المتحدة لنترك هذا سريّاً بيننا في الوقت الحاضر. استمرّت الجلسة ساعة. الليبيون مذهولون. لم يكن لديهم؛ وهم يُصافحون الرئيس السماوي. كلمات يُمكن أن تعبر عن اعترافهم بجميله. ولما كانت ساحة القصر مليئة فعلاً بالصحفيين وبأجهزة التصوير التلفزيونية فكرت بالخروج من الرواق الذي يبدا على اليمين تحت السُّلّم وهكذا وقفتٌ وراء ستائر إحدى النوافذ لأتمكن من الاستماع عن بُعد إلى مؤتمرهم الصحفي الُمرتجَل. وحين انتهوا واتّجهوا صوب المخرج؛ من جانب شارع ضاحية سانت اونوريه؛ يلحق مهم مصوّرو التلفزيونات خرجت من الباب الجانبي إلى شارع الإليزيه. وما كِدت أصير في الخارج: حتى رن هاتفي. إِنّه الرئيس الذي يُريد أن يعرف رأيي في اللقاء وإذا ما كنتُ مبسوطا وإذا كان كل شيء مُناسباً لما كنا قد قُلناه. ثمْ وبغرابة أعرف الآن مع نهاية اليوم وحتى قبل أن أَعِدَ مخططه لماذا يتصل بي: «حسّناً...كنتٌ حاضراً حسناً! أنتَ أيضاً... لا تتردّد... قل ما رأيتَ وما سمعتٌ...لا تتردّد في التعبير عن رأيك...». ما إن انتهت الكالمة وصرتٌ في السانت اونوريه حتى اختفى الصحفيّون. لم يبقّ إلا قناة عربية أدليتٌ لما ببعض التصريحات. أمام البريستول دعاني ديديبه فرانسوا للمجيء الساعة السادسة مساء إلى إذاعة أوروبا الأولى حيث كنت أحاول: أمام الجُموح الإعلامي أن أخفف وقع الحدث؛ بالقول: يجب عدم المبالغة ولن تذهب فرنسا لقصف طرابلس. نحن بعيدون عن الصورة التي تُعطيها القنوات التلفزيونية كافةّ عن برنار ‏هنري ليفي الذي يتحدث ‏ باسم ‏ الدولة الفرنسية على مدخل ‏ الإليزيه ‏ لِيُعلِنَ ‏ الحرب ‏ على ليبيا. لكنْ إن كان هذا يُسليها...فلا أهمية لهذا الكلام الجارح برٌمّته...الشيء الوحيد المهم هو أن الرئيس قطع عهداً. وتم الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي. وأنا سعيد بهذا.

الجمعة 11 آذار/مارس عندما اعتقد رئيس الجمهورية بوجوب تغيير لهجته جنوب فرنسا. قبل أن أترك باريس وافقت: لأوّل مرّة في حياتي على إجراء مُقابلة على هذه القناة المسمّاة الجزيرة التي قلت عنها كلاماً سيّئاً كثيراً لحظة تأسيسها واكتشفت أنها في الواقع قناة عظيمة من مستوى سي أن أن حيث بالإمكان كما حصل اليوم أن نتسلى بإطلاق عبارة تفرح شبكة الإنترنت: blow jobs التي سيصير صعباً إعطاؤها للدكتاتوريين العرب. أنا سعيد بكلمتي. سعيد حين نتساءل هنا أو هناك من هو المُستهدّف. إنها العاشرة ليلاً. كنت أتناول طعام العشاء عندما رنَّ هاتفي. تردّدتٌ في الإجابة من خشية أن تكون الإذاعة الألف تطلب مني ما أقول؟ مُصِرَاً على «صوت» حول قضية blow jobs أو عن "دبلوماسية مدخل الإليزيه". لكنْ لا شيء من هذا. إِنّه ساركوزي. غير أنه ساركوزي حزين. تقريباً مُغتاظ. فهو بحسب ما أحسستٌ من نبرة صوته؛ لم يستطع أن يجذب شركاءه الأوروبيين إلى صفّه بالسهولة التي كان يتصوّرها. يقول العكس بشكل طبيعي. يدّعي الترفع ‏ أي زَعم!؟: لم يكن هذا سهلاً لكنّه كان يُمكِن أن يكون أسوأ؛ على الأقل حصلت عل بِيانٍ مُشترك. يُشْدّد على عجّل على أن الجامعة العربية تتقدّم «بخطىّ سريعة» نحو وضع صارم. غير أني اكتشفت الحقيقة لاحقاً وأنا أقرأ البيان المشترّك وعندما شاهدت التعليقات عليه على شاشات التلفزيون؛ فقد مضى أمس سريعاً جداً مع الليبيين ولعلّه أفرط؛ ومن الواضح أن شركاءه سيجعلونه يدفع ثمن تصرّفه بمُفرده (بوصفه مظهراً جديداً للصّلّف الفرنسي). وفيما يتّصل بالأميركيين الأمر مُختلف أيضاً: سلسلة من المكالمات الهاتفية مع نيويورك ترفع حرارتي وقلَمّا تكون أفضل. فالجمهوريون كالديمقراطيين يبدون على الخط: «تخوض الولايات المتّحدة الأميركية حربّين لا تعرف كيف تنسحب منهما فهل هذا هو الوقت المناسب لتخوض حرباً أخرى مُرتجلة فوق ذلك؟» باختصار: فرنسا وحيدة. يبدو أن جبّل البارحة تمخّض فولّد فأراً. وهل امتلك ساركوزي الحكمة في أن يضرب ضربته من دون أن يطلب رأي أحد لأننا عندما نرى كيف يتصرّف هذا العالم الصغير بعد قراره نجرؤ على تخيّل حجم المصاعب التي وضعها قبله! ما العمل الآن. ونحن في هذا الموقف؟ هل هناك وسيلة للمُساعدة وما هذه الوسيلة؟ دفْع الأمور كيف؟ أم أنّ كل شيء قد انتهى ونحن بصدد الُمشاركة. بشكل آخر في إعادة نشر مشهد ميتران ‏ 1992 مع سفرته الرائعة إلى سراييفو الذي سمع به العالمّ كله على الفور تقريباً؟ ذلك كله يدور في رأسي. وإذ أضاف النعاسٌ الخلط والبلبلة: بنيتٌ مُخطّطات مجازِفة العودة إلى بنغازي لكن لماذا؟ أُقدّم عريضة؟ ‏ هذا وهم؛ نداء أوروبي؟ ليس هذا بأفضل من ذلك، حتى جاءتني هنا في الثالثة وبضع دقائق صباحا فكرة أقلّ رداءة أَجَلتٌ تنفيذها إلى الغد. باختصار: إقناع الأميركيين. أو بعبارة أفضل: إقناع سيّدة أميركيّة. أعرف هذه الأميركية قليلاً. رأيتها سنة 2004 مع تينا براون في بوستن. ورأيتها ثانية في مسرح كارليل حيث جاءت. مثلي لتسمع مُغْنيّة شعبية. كنت حيَّيتُ شجاعتها وعزّتها عدّة مرّات في مقالاتي في جريدة American verigo لحظة الاغتصاب الرمزي الذي مُورس معها بفتح ملف لوينسكي. وقبل ذلك بزمن طويل سنة 1994. في نيويورك حيث علم مكتبها بعرض فيلم بوسن! من أجل مجموعة من المثقّفين وقادة الرأي وحيث طلب kسخة عن الفيلم؛ أعلمتني باشمئزازها أمام استشهاد سراييفو وأمام صمت العالم! هذه الأميركية هي طبعاً هيلاري كلينتون وزيرة خارجية باراك أوباما. ستكون يوم الاثتين في باريس لحضور قمّة الثماني. قرّرت أن أفعل كل شيء من أجل تهيئة لقاء بينها وبين أحد أعضاء الوفد الليبي الذي زار الأليزيه. كما مع اللواء مسعود؟ كما لي البوسنة؟

في وقتٍ متأخر من الليل.هناك حدّثان مُزعجان يرعِبني تكرارّهما. ميتران سراييفو.كنت أعتقد أنني وصلت حتمَّاً إلى إقناعه.أتذكّر حين اتصل فيدرين بي من طرف الرئيس وكأنّه حصل البارحة يوم السبت المشهور حيث أخبرني أن الرئيس سيطير من لشبونة قاصداً العاصمة البوسنية المحاصرة. فبصرف النظر عن أنَّ هذا الرئيس ماكر بحقٌ كان يعرف ماذا يفعل وهو يُغرق المشكلة السياسية للقومية الصّربيّة ومشروعها في التطهير العرقيّ في ضوضا التفاتة المساعدات الإنسانية الهادفة إلى خلق جسرجوّي يسمح بتأمين الأغطيّة التي لن تُستخدم: كما رأينا في فيلم بوسنة إلا لِصّنع الأكفان.كانت القضية قد سُويّت منذ البداية. وهناك الحدث الثاني الأقل ذيوعاً من الأوّل الذي أتى لاحقا وترك فّي ذكرى حارقة؛ هو خطوة الثنائي مسعود ‏شيراك. كنت في شهر شباط/فبراير من عام 1998 قد أقنعت اللواء مسعود بالمجيء إلى فرنسا للتعريف بنفسه.وفي سنة 2001 في نهاية شهر آذار/مارس؛ يوم الجمعة 30 آذار تحديداً )وكنت في مهمّة تصوير تقرير عند قرنق في جنوب السودان وهذا كله محفور بحروف وأرقام من نار في ذاكرتي( اتصل بي عن طريق المهندس إسحاق ليقول لي إنّْه جاهز.أعلمت فوراً فرانسوا بينو الذي كان بحكم أنه كان دائماً على عِلْمٍ بأننا سوف نذهب لاستقبال اللواء بطيّارة في دشنب في طاجكستان وأن عليه؛ في اللحظة المناسبة إلزام شيراك باستقباله يطلب مني بانتظام أخبار المشروع.خلال الوقت الذي استغرقته عودتي إلى باريس اتّصل بصديقه الرئيس ورآه يوم الأحد بعد يومين وأقنعه. ويوم الاثنين صباحاً شرعّت آلة الإليزيه في العمل وحين تشرع في العمل تنبه حتما آلة ماتينيون. يوم الاثنين عصرأ تدّعي رئاسة الوزراء أنّها تلقّت من البعثة الفرنسية في كابول خبراً يُفيد بأنّ مُبادرة الإليزيه تضع المتطوّعين الإنسانيين الفرنسيين الموجودين على الأرض الأفغانية في خطر. حيث إن رئيس الوزراء ليونيل جوسبان.إمَا أن يأخذ التهديد على محمل الجد وإمًا أن يحاول نزع فتيل ضربة سياسية قد تنقلِب لصالح مّن يخوض ضده معركة حتى الموت قبل سنة من الانتخابات الرئاسية ويفتح مظلته ويُنبّه أنّ القضية إذا تمت فستتم من دونه.أمّا الرئيس الذي كان فريسة الشكٌ. وموت النفس ولا يُريد أن يتحمّل أيّ خطر فيُّلغي الدعوة ويطلب من فرانسوا بينوه الذي كان آسفاً مثلي أن يُلغي إرسال طيارته - ويّرسِل الطفل الوليد سرا إلى البرلمان الأوروبي. فأنقذت رئيسته نيكول فونتين ماء الوجه.كذلك فعل هوبير فيدرين وزير الخارجية؛ الذي أخذ على عاتقه أمر استقبال الذي كان؛ في تلك الفترة قبل عدّة أشهر من أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وقبل مقتله رمز الإسلام المعتدل ومُقاومة الإرهاب. أما السيناريو الكارثة الذي أخشاه؛ أكثر من أيٍّ شيء آخر أن أرى اليوم إعادة إنتاج دوامة الضّعف. فهل وصلنا إلى هذه المرحلة؟

نحو جامعة فرنسية عربية القاهرة. قرار صارم من الجامعة العربيّة. يقول إِنَّ القذّافي «فقّد شرعيّته». وعلى القُوى التقدّميّة أن «تتعاون» مع المجلس الوطني الانتقالي.وعلى مجلس الأمن في الأمم المتّحدة أن يفرض عل الفور حظرا جويّا على ليبيا. فهل هي بداية الانضمام إلى فرنسا؟ هل هو مخطّط هذا التحالّف الكبير الذي ذكره الرئيس أمام مبعوثي عبد الجليل؟ هذه مرحلة حاسمة بالتأكيد. لحظة تاريخية. تكذيب لأطروحة المصري البلهاء حيث استبعد.خلال حفل العشاء في سفارتنا في القاهرة أيّ تدويل لهذه القضية العربية الداخلية التي ينبغي ألا تُحَلَ إلا عربياً. اتصلت بغلام واصف مُرافقي في ميدان التحرير وأحد آخر من احتفظوا بموقفهم أمام أعداء الثورة. فيؤكّد لي النبأ.

يتواصل  

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح 3
الأحد, 14 فبراير 2021 21:51

 

رؤية ولادة المجلس الوطني الانتقالي

تحوّلت قضية عبد الجليل إلى وسواس. بدأت اليوم بأن تسوّلت من صحفيّي تيبستي إمكانية الاستعانة بحقائب اتصالهم عن طريق الأقمار الصناعية؛ لأني أعرف أن من الممكن حتى من هنا الاتصال بالانترنت. شغلت محرّكات البحث الّمْفضلة لديّ وكتبتٌ بأشكال فرنسية مختلفة اسم مصطفى عبد الجليل. فأنا ألفظ هذا الاسم من دون أن أعرف عنه شيئاً يُذكر. أعرف باختصار أنه كان وزير العدل في عهد القذّافي سنة 2007 (في الشهور الأخيرة لقضية الْممرّضات البلغاريات) وأنّه خلال عامي 2009 و2010 قاد حملة؛ من داخل النظام لتحرير السّجناء السياسيين وهي حملة يصعُّب قياس نتائجها الواقعية لكنّه بالتأكيد استحقٌالهالة التي يبدو أنه استفاد منها وأنه أوّل موظّف في الدولة التحق بالثوّار في 15 شباط/ فبراير (وبعد ذلك اختارته لجنة حكماء في 17 شباط بعد أن اجتمعت في البيضاء رئيساً مؤقّتاً للحركة؛ وفهمتٌ مؤخرا من خلال الوثائق الأميركية التي سرّيها ويكيليكس أنه مسلم تقيّ أقرب إلى المحافظة. غير أنه مُتعاون ومُنفتح ومؤكّد أنه ليس إسلامياً قريباً من القاعدة الخ كما تزعم أبواق القذّافي. قضيت باقي اليوم مع فكرة في واحدة في رأسي عبّرتٌ عنها في كل لقاءاتي وكرّرتها بلا كلل أمام دوار الشمس البائس الجاهز, في كل مرّة لتذكير غوقة بوعده في لقاء عبد الجليل وقيادتي إلى هذه الشخصية التي لم أعد أعرف إن كان خيالي وحدّه هو الذي يُعطيه هذه الأهمية أم الواقع؛ فأنا أريد بأي ثمن حقاً بأيّ ثمن؛ أن يمكن لي الاتصال مع هذا الرجل غير المرئي مع هذا الفرد الغامض للغاية مع أفلوطين المتمرّد ومع هذا الجدعون الآخر لكن أقول مرّة أخرى هل عيوني وحدها هي التي تُحيط بها هذه الهالة (يقول لي جيل «لا» مُطمئناً( لكن من دون أن أصل إلى معرفة إِنْ كان هو نفسه يبحث عن الاطمئنان؛ فلا أحد حتى الآن استطاع أن يراه؛ ومن الواضح أنه الشخصية المفتاح؛ فتخيّل سفرّنا إلى جنوب السودان. لولم نْصِرٌّ في نيروبي ثم في لوكيشوكيو على النجاح في رؤية جون قرنق. وحيث إنهم أكّدوا لنا أن رجمة قريبة من بنغازي؛ وأنه كان بإمكاننا لو أن الاتصال الهاتفي يصل هناك. أن نعود إلى المدينة بسرعة. ذهبنا إلى رجمة لنرى مستودع الذخيرة الذي انفجر الليل الماضي. لنرى أنقاضه. وهذه السحابات من الدخان التي ما تزال تنبعث من بعض الأنقاض. وفي مكان أبعد قليلاً وابلٌّ من غبار أسود وكأن قوة الانفجار شكّلت سحائب من السّخام الذي كان يتصدّع. بينها تجول مجموعة من الناس المتدثّرينَ بمعاطف ذات قُبّعات يبدو أنها تقيهم من عدوى مجهولة؛ بين الأنقاض بحثاً عن قطعة سلاح سليمة عن صندوق ذخيرة لم يأتِ عليه الانفجار. هل نتج الانفجار عن حادث؟ عن عملية تخريب؟ عن قصف جوي (لكن رأى أو سمع شيئاً)؟ كل ما هو معروف أن هناك 27 قتيلاً وأن هذا ليس في صالح الثوّار الذين سمعناهم أمس في البريقة يستاءون من نقص السلاح. من جهة أخرى؛ كل شيء تغيّر. بعد عدة ساعات تقريبا لكنّ لهجة بعضهم من خضنا معهم نقاشاً كانت مختلفة. إذا خف التبجّح وازدادت الوجوه اكفهراراً. حكى بعضهم كيف يُعطي القذافي رجاله الفياغرا وشحم البنادق تاركاً لي أن أحزر الغرض من استخدامه. ويذكر آخر قائد مرتزقة تشادي فظيع جدا مجهول الاسم لكنه معروف أنه أكتع. بينها يؤكّد الطالب الجامعي ربيع بأنه تلقى معلومات من ابن عمّه في طرابلس عن هجوم مُضادٌ وشيك. ساعة الغداء.. قتلنا الوقت على الكورنيش بإعادة شرحنا لقصص الحضانات وجمع القيامة التي بدت في أعيننا أقلّ أهمية من البارحة. وفي الحيّ الإيطالي القديم قضينا الوقت في زيارة الكاتدرائية (المحوّلة عن وظيفتها) ذات القَبتّين بلونيها الأخضر والقصر الأسقفي سابقاً نصف المهدّم. حاولنا أن نعثر على أطلال بنغازي القديمة أطلال هيرودوت والملكة بيرنيسا ‏ لكنْ ماذا يُمكِن أن يبقى من مدينة دمرت ثلاث مرّات. بل أربع مرّات. أجل! إبّان الغزو الفارسي والعربي والعُّثماني يُضاف إليها الغزو الإيطالي؟ دوّنتٌ على عجّل، ومرّة أخرى أيضاً أنْ الفن وفن الأدب بالتحديد؛ يعرف كيف يمنح الحجرٌ حياةٌ وأن مدينة خالية من الكتّاب لن تعرف أبداً إلا وجوداً من مستوى ثانٍ. في الثانية بعد الظهر يأتي النصر! فها هو محمّد عبد الملك؛ المعروف بدوّار الشمس يتلقى أخيراً المكالمة الهاتفية التي كان ينتظرها فنوّرت وجهه المليء بالزوايا والتجاعيد. يقول مؤكّداً: "مصطفى عبد الجليل هنا" ويبقي صوته فاتراً مُتباطئاً قليلًا رُبما يفعل ذلك قصداً أم أن هذه طريقه في أن يتقدّم قليلاً هل هؤلاء الفرنسيون مُستفزو الأعصاب الذين يستعجلونه منذ أمس. الرجل في المدينة ينتظرنا هيا بنا.. . بيت واسع جميل غرب مركز المدينة كان الدائرة المحلية لوزارة الخارجية. حديقته مطلّة عل البحر مُهملّة. ومليئة بجذوع الأشجار ونباتات الأدغال. وتتسلّق على واجهته نباتات الجهنميّة الحمراء والبيضاء من دون دعائم. علا ضجيج حشراتٍ حاد فَوْر تَخطّيها العتبّة. في الحديقة حوض مليء بالرمل. وفي داخل هذا المقرّ الغريب عدّة حجرات متتالية حيث يقف رجال مُسلّحون وفي الطابق الأوّل قاعة بأعمدة فتحاتهًا زجاجية عليها ستائر مفتوحة بأرائكها ذات الدواليب التي جُهَزت أمامها كؤوس الشاي وفناجين القهوة وعُلّقت على الجدار خريطة ليبيا ألوانها عديدة ومزيّنة بحروف على شكل حلقة يبدو أن القاعة تحل محل البهو. هذا هو المكان. بعد أن قضينا ساعة في دراسة تفاصيل دوائر الخارطة؛ قال جيل بقلق: «هل أنتم متأكدون من مجيئه؟». أجاب دوّار الشمس بصوته المُترافق مع شكٌ المرح الممتع الذي يُشير إلى أنه هو القائد في هذه القضية: «أكيد سوف يأتي. تفضّلوا بالجلوس. لن يتأخر». وأضاف بصوتٍ خافت استعاد النغمة الأخوية التي كانت فيه البارحة: "لا‏ تغضبوا هذا يوم خاصٌ إِنْه اليوم الذي ستتمّع فيه بنغازي بحكومة انتقالية؛ لهذا السبب تأخر". وقال لي حين رأى اندهاشي من عدم اتصاله ليُخبرنا بأنه لم يَنْسَنا: "لا تقلّق: أرجوك؛ خصّصٌ لكم وقتأ وفهم أن هذا هام وسيأخذ الوقت الكافي للتحدّث معكم". يدخل رجل في الدوار ظَننْت أنّهِ هو طبعاً. وارتكبتٌ الخطأ نفسه مع دخول شخص آخر. ودخل ثالث يبلغ من المهابة ما جعلني أَتأكّد من أَنْه لا يمكن إلا أن يكون هو فنهضت بالتالي للسلام عليه محضرا تحياتي له؛ لكن لا إِنّه خطأ جديد. فوجدت نفسي في هذا الموقف الذي أعرفه جيداً بأن أخمّن العلامة التي سأتعرّف من خلاها على هذا الرجُل حين سيُقدّم نفسّه الرجل الذي لا يعني لي شيئاً وكنت ما أزال حتى عشية أمس أجهلٌ اسمه ووجوده: لكنه يبدو لي في تلك اللحظة أهمّ شخص على وجه الأرض؛ حيث أمرٌ تقريباً بطريقة محتومة؛ جانب الهدّف.  قلت لنفسي كثيراً من المرات: «لن أعيدها. مرّات كثيرة» حضَرتُ نفسي: «لن أترك نفسي هنا أنخدع بمظهر». وكلّ مرّة يحصل الشيء نفسه. كل مرّة» السيناريو نفسه. في أسمرة (في أرتيريا»؛ في هوامبو (في أنغولا)» في جوبا (في جنوب السودان) حيث سلّمت على حوالى ستة أشخاص حسيتهم جون قرنق قبل أن أهتدي إلى شخصه الحقيقي؛ وفي زينيكا (في البوسنة الوسطى) حيث قضيت النهار أنتظر في المقر المركزي اللواء محمّد ألاجيك؛ القائد الأسطوري للفيلق السابع في جيش البوسنة وذلك قبل أن أتعرّف وجهّه النقيّ ونظرته نصف الخبيثة نصف المرتبكة التي سوف يكتشفها العالم بعد زمن طويل لحظة إدانته في محكمة لاهاي كانت تحدث. في كل مرّة. المهزلة نفسها. تماماً مثلما حصل اليوم؛ فخلال ساعة: وبعد ازدراء تكرّر ثلاث مرّات حيث تركت نفسي للانخداع هنا يظهر لي بهيئة مهيبة لا تقبل الجدل؛ هنا بتواضع مظهره وبمزيّة أفضل أيضاء هنا بقامته العالية يُغطّيها لباس قبل تقليدي؛ فخلق حين أطل قشعريرة غير ملحوظة بين الليبيين أنفُسهم وانتهى بتقديم نفسه: مصطفى عبد الجليل الحقيقي: قصير القامة بسمته متواضعة نظرته كنظرة النسر الباهرة: أصلع شعره قصير جدا والدائرة السوداء في جبهته التي تدلّ على مزاولته السجود وكثافة تعبده معطفه رمادي؛ تفصيلته ممتازة لم يخلعه على الرغم من الحرارة المرتفعة إلا في وسط الحديث؛ إنها الصلابة الشديدة التي طالما وجدثها عند أولئك الذين يواجهون الاستبداد بأيدِ عارية وقد وصل كالمعتاد لحظة عدّم انتباهي وبالتالي لم أتمكّن من معرفته.‏ تمّ الحديث: بحضور ستة من مُعاونيه في حُجرةٍ أخرى؛ متّصلة طوليا مفروشة بأثاث حديث ومجهّزة بحواسيب وثُريْتين موضوعتين على طاولة وبهواتف محمولة لا تتوقّف عن الرنين وتتتشر عُلَبٍ الصودا في كلّ مكان بينما لفت سجاجيد الصلاة. جلس مصطفى عبد الجليل وراء مكتب من خشب متين. يفهم الإنكليزية. ورُبّما الفرنسية أيضاً. لكنّه يزعم أنه لايجيدها. ويطلب من أحد الحاضرين الذي يتكلم الإنجليزية بامتياز أن يقوم بالترجمة. راح يُراقبني. أقرأ في نظرته حُسْنَ اهتمام مشوباً بقليل من التحفّظ. بدأ خلال ما يقرب من ثلث ساعة يجيب على أسئلتي ويشرح لي: في اللحظة الراهنة لحديثنا واقع حال التمرّد: حدّثني عن نفسه ومن أين جاء عن قصّة الُممرّضات البلغاريات التي كان القذّافي يُريد استغلالها ضدّ رأيه هو كي يبتز الغرب؛ وعن اجتماع مدينته البيضاء حيث قرّر مجلس الحكماء أن يسمّيه رئيساً له؛ وعن نهار اليوم الحاسم الذي سيّكرّس هذا القرار ويمنح الحركة مجلساً‏ انتقالياً مبنياً ومدعوًا للاستمرار وعن الانتصارات العسكرية التي يُحَقّقها الثوّار وانتصارات الأيام الأخيرة التي تشهد على تفوّقهم المعنوي وعلى عدالة قضيّتهم وعلى إيهانهم؛ لكنْ بحسب ما كان يعرف عن ردود أفعال هذا «القائد» الذي خدمه زمناً طويلاً طبعا فسوف يتصرّف بسرعة ويردٌ بطريقة وحشية محَاولاً أن يغسل التمرّد الذي قام في وجههه بالدم ولن تُقَاوم المدّن المحرّرة (بن جواد وراس لانوف البريقة واجدابيا وحتى بنغازي) طوابيره المصفّحة إلا بمعجزة. هل أنا الذي قاطعته هنا؟ أم توقف بعد أن قدّر أنه تكلّم بما فيه الكفاية؟ لم أَعٌّد أعرف. لأنْ الأشياء بعد هذه اللحظة ستجري بسرعة. أتنبّه أولاً إلى أنه لا يملك فكرةً من أيّ نوع. كما تنبّه هو إلى أن الذي أمامه كذلك. ينظر إِلّي بطريقة بيغوفيتش نفسها حين رآني أَوّل مرّة في قصره الذي كان تحت القصف. أو بطريقة مجيب الرحمن قبل عشرين عاما حين أتيت» بسروالي القصير في البيت الواطى» في طابق كان يسكنه في شارع مُطِلَ على ساحة «داكا الكبرى» لأشرح له أنني ساهمتٌ في تحرير بلاده وتقضي كبريائي بأن أساهم في إعادة بنائه. وحتى بطريقة الجنرال مسعود المُحاصّر في مخبئه ذات يوم من عام 1968: غداة سقوط "تالقان" حيث أتيتٌ لإجراء مُقابلة معه لجريدة اللوموند واقترحتٌ عليه وأنا أغادر بأن أجعل شيراك يُقابله.

بدأت بالقول «العالم كله ينظر إليكم؛» لأنه ينبغي قول شيء ولأنني دائماً ما أفعل مع المناضلين من أجل الحريّة الذين أتيح لي أن ألتقي بهم في طريقي. "كل العام ينظر إليكم." عيونه مثبتة عليكم. فبنغازي ليست عاصمة ليبيا الحرّة فقط بل عاصمة أحرار العالم كله رجالاً ونساء. أتينا لنقول لكم هذا. أتينا أيضاً لننقل لكم تحيات أبناء وطننا من يتذكرون كفاحنا ضد الفاشيّة. فمعركتكم هي معركتنا. وشجاعتكم تُوجب علينا الالتزام بمساعدتكم. كنت مُكبّلاً بما نطقتُ به توَاً. حتى إني مُتضايق قليلاً بسماع نفسي من جديد أكرّر الخطب الرنانة الُملّة مثلما فعلتٌ أمام قرق في جنوب السودان؛ وعبد العزيز في جبال النوبة وللمقاومة في بوروندي؛ وأنغولا أو أفغانستان وخصوصاً أنها خطب عديمة الدلالة يسمعونها بتهذيب مع علّمي أنها في ذاتها لا تساوي شيئاً. وحيث إِنها عديمة الدلالة لأنها عديمة الدلالة" ولأنني أفكر ببيغوفيتش المُحاصّر المحبوس في الجزء الأقل دماراً في قصره الذي كان؛ في ذلك اليوم؛ صائراً إلى موت مُعلّن فتخطر في بالي فكرة تكاد تكون أقل عبثية لكنها تستحقٌ أن تصير محسوسة. أقترح عليه ما سبق أن اقترحتّه على بيغوفيتش بعد أن شرح لي ببعض الكليات بعد عودتي إلى فرنسا التي ستّثير غضب سيمون فياي وكلود لانزمان وبعض الآخرين: إذ قال إن سراييفو هي فرصوفيا وأنه يتوسّل الغرب ألا يترك غيتو فرصوفيا مرّة ثانية. اقترحتٌ على بيغوفيتش أن يجعل من طلب النجدة الذي يُوجّهه إِليّ رسالة مكتوبة بحسب الأصول وسوف أُوصِلّها إلى الرئيس فرانسوا ميتران. وإليه؛ إلى الرجل المجهول الذي يقف أمامي؛ والذي يُذكٌّرنِي من خلال ملامح كثيرة ذاك الذي تعوّدنا على تسميته. كالبوسنيين "الختيار"؛ عرضتٌ أن أنقل ما قاله لي كما هو إلى نيكولا ساركوزي ‏ وربما إذا رغب أن أرافق وفداً من مواطني بنغازي أو من مسؤوليها إلى فرنسا. في تلك اللحظة: لم تكن لديّ أية فكرة عن الطريقة التي يُمكن أن تتم فيها الأشياء. وأقل ما يُمكن قوله أنني لم أكن على يقين من إمكانية القدرة على الاتصال برئيس الدولة الغربية الذي استقبل قبل أربع سنوات القذّافي استقبالاً فخما في باريس ولا من كيفية تصرّفه إزاء فكرتي. لم أَنْتَخِبْه. ولم أتحدّث معه منذ سنوات. أجل! فيما عدا مرّة واحدة؛ أو بالأحرى مرّتين حين تعلق الأمر بالحصول على موافقته على التدُخل لإنقاذ سكينة أم العائلة التي حكم عليها بالرجم. وقد تدخل وإليه يعود فضل أنها لا تزال على قيد الحياة ‏ ومنذئذ انقطع الاتصال. الحقيقة أن هذه الفكرة كما في سراييفو تماماً كما في سراييفو خطرت ببالي هكذا من دون تفكير أو تأمّل مُسبّق: مجرّد حركة تمرّد داخل ذاتي مجرّد رُعب انتابني أمام ما صرح به أمامي إذ شعرت فعلاً باللحظة الْمناسبة «لواجب فِعلٍ شيءٍ ما» واجب الحكمة الشعبية حين يكون حدوث الجريمة وشيكا وبضرورة التنبّه إليها وعدّم الانصياع لحتميّتها. يُراقبني مصطفى عبد الجليل بانتباه يكاد يُضايقني. شعرت كما لم أشعر من قبل أنّه يتساءل: من هو هذا الرجل الذي لا يعرفه. الذي ينتمي إلى نوع ينبغي ألا يعرفه أكثر من ذلك، جاء يقترح عليه أن يصله برئيس خامس أقوى دولة في العالم، ث هل أكون دبلوماسياً...أم صحفياً...أم جاسوساً... هذه الأنواع كلها يعرفها عبد الجليل... معروفة في ليبيا على صعيد قدراتها وحدودها وطريقة عملها...لكنْ لا! "مثقف" و"مُلتزم"! فضلاً عن أنه خدُومٍ يعرف نيكولا ساركوزي مع أنه لا ينتمي إلى حزبه! بدا له ذلك كله في غاية التعقيد. تجتاحه بقوّة فكرةٌ أنني قد أكون مازحا أو مُتحمّساً أو مجازِفاَ بحسن نيّة ولكني أحد الحالمين الذين تُنتج منهم الحرب عدداً كبيراً. حتى قد يقول لنفسه وقد يقوله أي إنسان وخصوصاً موظف كبير في الدولة الليبية الذي مارس عمله في ظل طرائقها ونظمها! ما هكذا تتم الأمور وهذا الرجل يُضيّع وقته. ربما حدّث نفسه قائلاً: ينبغي التحقّق لكن كيف العمل؟ أتكلم بالهاتف لكنّ البلد مقطوع عن العالم. يسألني أكثر يسبرني بشكل أفضل ‏ لكنّ الزمن يستوجب التعجيل. لا. في هذه اللحظة تولدَ شيءٌ في ذات هذا الرجل. شيء كاللغز ليس عندي شرح حقيقي له وأنا أعيد التفكير بهذا المشهد, محاولا إعادة وصّفه. فأضاء وجهه على عكس كل توقع. شكرني على كلماتي القليلة التي قلتها ثم نظر إلى جيل؛ ومارك وفرانك؛ وإلّي وشكرنا لمجيئنا إليه ولأننا سافرنا هذه المسافة الطويلة كي نصل إلى مدينته التي تعيش حالة حرب. وفي النهاية قال ببساطة بينما كان أحد هاتفيه المحمولين ماركة ثريا يرن إذ نسى أن يفتحه للمرة الأولى منذ بداية الجلسة: «أنا موافق» اتصلوا برئيسكم إذا استطعتم؛ وقولوا له لم يعد القذّافي يملك أية صفة لتمثيل شعبه فالشرعية وحدّها التي يجب أن تعترف بها الأمم المتحدة هي هنا وإذا اعتقد أن الحديث انتهى وأشار إلى روسيل الذي صوّر كل شيء طبعا أن يجمع أدواته قائلاً إنه سوف يأخذ إجازة لعدّة أيام أضاف باللغة الإنكليزية على الفور وانفرج وجهه: لا لا لا تذهبوا فهذا الاجتماع هامّ لا تُصوّروه فهو مهم ويُمكنكم أن تلخّصوا مجرياته في تقريركم لرئيسكم. تلت مُناقشة باللغة العربية استبعدنا عنها تلقائياً. لكنّي شعرتٌ أن النقاش مُتأجج ومتناقض, حيث بدا أن عبد الجليل كمن يُقدِّم مُرافعة ويصِرٌ ويُقاتل كاسباً الموقف لكن خطوة خطوة وبصعوبة في مواجهة رجالٍ أخطات حين ظننتّهم مُجرّد مُعاونين له. بعد حوالى ربع ساعة؛ سكت الجميع. انتهى النقاش فجأة كما بدأ فجأة. وخيّم صمتٌ عل الجو اخترقه عبد الجليل بقوله بالإنكليزية أيضاً كما لو أنه يعدّنا شهوداً عن نقاش تابعناه: «هو ذاك؟ وردّد هذه الكلمة وهو يأمر الآخرين بنظرته الثاقبة أن ينصرفوا. لم يكن عددنا كبيراً. عاد كما كان عليه قبل قليل. في أي فندق تنزلون؟ في فندق تيبستي. هذا مُلائم جدأ فهناك سوف نجتمع لنختم ونُطالِبٍ بهذا.. ويُرينا صفحة مُزْدوجة مطبوعة على الساحبة تعتمد بالإنكليزية تعتمد تشكيل «مجلس وطني انتقالي» رأيت في رأس القائمة أنه رئيسه. أضاف بصوت مُتأثّر: «هذه وثيقة تاريخية. أنتم أوّل من علم بها. احتفظوا بهذه النسخة حتى موعد اجتماعنا هذا المساء؟. وهم بالذهاب ليفتح الكوّة الزجاجية على يسار مكتبه وكأن النقاش رفع حرارته. وفي هذه اللحظة أسرع أحد الرجال يبدو أنه كان يهم بطواعية ليفتحها له. فاستنشق مُوارباً وجهه جرعة من الهواء المتصاعد من البحر ‏ وبعد لحظة صمت صرفنا بالقول: «لقاؤنا في الطابق الأول من فندق تيبستي. وإذا تكلمتم مع رئيسكم هاتفيا ارجعوا من فضلكم. إلى السيد -غوقة؛ الُمتحدّث باسمي الذي سوف ينتظركم في البهو.

الاستنجاد بنيكولا ساركوزي

عُدنا إلى الفندق. كان الصّداع المنذِر منذ هذا الصباح قد انتهى بالتفاقُم. صعدتٌ إلى غرفتي لأتمدّد وآخذ حبّة أسبرين. ثم نزلتٌ إلى الطابق الأول حيث يبدو لي أن الرجال أنفسهم الذين رأيناهم في الفيلا يجتمعون بالإضافة إلى خمسة آخرين حول طاولة ويستمعون إلى عبد الجليل. وإذ لم يكن لدي مُترجم وكان رأسي ثقيلا قلت لنفسي: الخروج في الهواء الطلق سيّريحني. فنزلت حتى عتبة الفندق باحثاً عن المكان الذي تعمل فيه الهواتف المحمولة بالكاد. بعد قليل تكون الساعة السابعة مساء. أهتف لطيّارنا لأتأكد من أنه حصل على السماح ببقائه في مرسى مطروح؛ وفي الوقت نفسه لاختبار الخط الهاتفي البائس. اتصلتٌ بجاي إلى جريدة الأحد لأقول له إن ورقتي تتخذ مسار هاما لم نستطع التفاهُم بسبب رداءة الاتصال فأغلقت الخط حالاً. بقيت حوالى نصف ساعة على السَّلَّم وجهي بين يديّ ورأسي كالطبل؛ أكاد لا أعير انتباهاً للصحفيين العائدين من تصوير تقاريرهم. قلق جيل ودوّار الشمس وفرانك الذي لا يتركتي فأخبرتهم أن كل شيء على ما يُرام فبعد دقائق قليلة سيزول هذا الصّداع النصفي. وأخيراً يزول لأنني التزمتٌ حين شعرتٌ فعلاً بتحسّن حالي قليلا بضرورة محاولة الاتصال بنيكولا ساركوزي. كيف أتصرّف؟ وبأية نغمة؟ وماذا لو عاد الصداع النصفي بقوّة؟ وماذا لو كان الصوت غير واضح كما حصل مع جاي والطيّار؟ ما العمل حين أتصل من بنغازي على خط رديىء. مع رئيس الجمهورية الذي لم أكلّمه منذ سنوات؟ لكن! على افتراض أن الاتصال ممكن وأن مركز الهاتف في الإليزيه (وليس معي إلا رقمه) يحولني فعلاً إلى الرئيس وأنني أجد الكلمات الأولى الكلمات التي تسمح بفتح الخط فماذا أقول له؟ ما الرسالة بالضبط؟ فآلام رأسي تبلغ من القوّة ما يحول بيني وبين أن تكون أفكاري واضحة تماما حتى إني لم أعْد أعرف في الحقيقة: الرسالة التي أريد تمريرها؟ اتُصلت. لسحن الحظ ليس الخط رديئاً جداً. لحسن الحظ يرد علي في مركز الهاتف ضابط مُناوب يقول لي كما لو أن الأمر تحصيل حاصل: "لا‏ تترك الخط سأصلك بالرئيس". ولحسن الحظ أيضا ها أنذا بعد عدّة ثوان من الموسيقى مع نيكولا ساركوزي على الهاتف . بصوته الواضح اللطيف ونغمة صوت الرئيس الذي أزعجه لكنّه يتخيّل تماماً أنه لابُدَ أن يكون لديٌّ إذ اتَصل به يوم السبت؛ وفي هذه الساعة شيء مُهِم أقوله. بدأت بالقول: "السيّد الرئيس". يقرع الصداعٌ رأسي من جديد. فأشدٌ على الهاتف بيد وأعصر صدغيّ باليد الأخرى الإبهام على صدغ والخنصر على الصدغ الُمقابل. "أنا في بنغازي سيادةً الرئيس". أجاب وكأنٌ لا شيء أكثر عاديّة من أن يسمعني أتحدّث من بنغازي: «آه! كيف تسير الأمور؟ كيف حالك؟ هو الذي بدأ يخاطبني بضمير المخاطّب الْمفرد. لم يُدهشني هذا ما دُّمنا نتحدّث دوماً برفع الكلفة. لكن هنا في بنغازي حيث أقف متوازناً على درجة السلّم الوحيدة حيث تعمل الهواتف المحمولة ورأسي يشتعل صُداعا يُزعجني حتى أن أفتح عينيّ فقد بدت لي بداية المكالّمة غير واقعية. "عندي شيء مهم لأقوله لك". هات نعم؟؟ : دائماً باللطف نفسه. لكن مع قليل من نفاد الصبر في الصوت. رُبَّا لأنْ الخطّ تشوّش. أو لأنّ هذا الصداع اللعين يُسمعني من حيث لا أدري صوتاً غريباً. "التقيت للتو «المسعودون» الليبيون." التقيتٌ ماذا؟ اللواء مسعود. «المسعودون» الليبيون. مُعارضو القذَّافي. رأيت الُمعارضة تتشكّل في شخص واحد...  أتى شخص بدين. صحفي فرنسي من دون شك والتصق بي مُحاولاً أن يتصل بالهاتف هو الآخر. أدرت له ظهري. كان هذا الانتقال البسيط فوق أنه يُفَجّر رأسي ليجعلني أفقد شبكة الاتصال. أعدتٌ الاتصال. من حُسن حظي أن الخطّ واضح وأنهم حوّلونيٍ إلى الرئيس من جديد. "كنت‏ أقول مسعود... مسعود الذي أغلقت فرنسا أبوابها في وجهه بصورة مخجلة في عهد شيراك..." - أعلّم... أعلّم... خامرني شكٌ بإزعاجه من جديد. رُبّما لأنّه وجد أن أنني بالغت قليلاً في الغمز من شيراك. لكن رؤية الأشياء من هنا مع صراخ الشباب في الأسفل ورَشّات الكلاشنكوف؛ وإطلاق منصّة الصواريخ الُّمدوّي بقوة هائلة في النواحي القريبة لاشيء حقاً يفوق هذا ضجّة ولم أحسٍب حتى الآن نتائج ذلك كلّها. استدرت قليلاً باتجاه البحر لأن الشاشة تُظهر لي أن ليس لديّ من مؤشرات الشبكة الستة سوى أربعة. "شاركت قبل قليل في ولادة حكومة بنغازي".

"الكومونة؟ لا أسمعك بوضوح..." هل حقاً لم يسمعني جيّداً؟ أم أنّ هذه الكلمة المُشبّعة بالتاريخ بتاريخ خاص أرهبته فجأة؟ : في النهاية أريد أن أقول المعارضة. رأيت ولادة المعارضة الوطنية ضد القذّافي وأرى من الخارق أن تكون فرنسا أوّل من يعلّم بذلك. ."أكيد‎" كان يبدو مطمئناً. لهجته أقرب إلى المودّة. بدا لي أنه عنى. في قوله «أكيد»؛ صدى أنصاف الكلمات والتواطؤ القديم. "فكرتي هي دعوة وفد من هذا المجلس الذي شكل توا إلى باريس". لكنْ عندي سؤال؛ وعَدتٌ به أصحابٌ الشأن هناء وعلّي أن أسألك إيّاه: هل تقبل أن تستقبل شخصياً هذا الوفد.. ثيراًما حدثتُ الُمعجزات لكنّ الذي يحدث هنا في هذه اللحظة إنه هو مُعجزة المعجزة الثانية اليوم وإذا فكرنا فيها تكون أقلّ احتمالاً من الأولى. فبدل أن يتعجّب قائلاً: ايا لها من فكرة! بدل أن يجيبني بحذر لم لا؟ ليست الفكرة واضحة تماماً ولكن‏ لا؟ "فلتتحدّث في هذا حين نلتقي في باريس" بدل أن يُلامس الموضوع برفق ويطلب مني وهذا ما كنت سأتفهُمه كلياً أن أتصل بمُستشاره جان ‏دافيد ليفين؛ وأبحث الأمر معه قال رئيس الجمهورية؛ وقد بدا له من الطبيعي أن يقترح استقبالاً رسمياً لسّلطة مُتكوّنة حديثاً لا أحد يعرف عنها شيئاً وهي تنتفض ضدّ حكومة طرابلس القوية جداً وكرّر بصوتٍ هادى: "بالتأكيد.." انقطع الحديث فجأة. لم أفعل شيئاً هذه المرّة. حرصت على ألا أتحرك مليمتراً واحداً بعد. غير أني تساءلت عما إذا لم يكن هاتف الثريّا خلافاً لهاتف الإيريديوم الذي تملكه صفوة الصحفيين يفصل كل ثلاثين أو أربعين ثانية. تلزمني عشر دقائق هذه المرّة: للعثور على شبكة؛ مُتنقّلاً من نقطة إلى أخرى مجرّباً أكمة في الشارع المُعاكس؛ رُكن من مرآب عائداً إلى السَلّم من جديد, ذلك كله وفي ذهني جملة "بالتأكيد" الغريبة الثمينة اللتي ترنّ الآن متّحدة بآلام رأسي. ومن حسن حظي الرئيس ما يزال هناك. وهذه المرّة هو الذي بدأ. "فكرت..". طرأ تشويش حال بيني وبين ساع بقية الجملة. قلت «ألو»» وأنا مقتنع بأنة فكر أجل لكن كي أختم بأنه لا يفهم شيئاً مما أطلبه منه ينبغي أن نتكلّم في الموضوع بهدوء بعد عودتي ومكالمة ليفيت: الخ. ألو؟ لم أعد أسمع شيئاً... استأنف قائلاً بعد أن صار الخط واضحاً من جديد والصوت صافياً: فكدرتٌ. سوف أستقبل أصدقاءك بطيب خاطر. قلت: أصدقائي بينما كان صدغيّ ينبضان بقوة وما صدّقت أذُّنّي... لاشك أنه سيكون حدثاً عظمياً... سيكون صداه عالمياً... كرّر: هذا ما أقول؛ وابتعد صوتّه فجأة لكنّ الخط هو الذي يُصلِح نفسه على ما يبدو حاسماً جودة الاتصال ونقاء الصوت. سوف أستقبلهم بكل سرور. ستتحدّث في أمرهم عند عودتك. تعال قابلني.  انهى الاتصال. استغرق الحديث خلال المرّات الثلاث ثلاثين ثانية. قلت لنفسي إِنّه أجل من أن يُصِدَّق. غداً أو بعد غد سيستيقظ قائلاً: لا معنى هذه القضّية. سيجد مُستشاراً يُنذّره ويُقنعه بأنَ أيّ رئيس جمهورية لا يستقبل هكذا بفعل مُكالمة هاتفية من صديقٍ قديم بينهما مشاكل منذ عدّة سنوات؛ وفد سلطة في المهد. بالإضافة إلى أنها تُعارض قوّات القذّافي التي لا تُحصى. ماذا سأقول إذاً لأصحاب الشأن؟ بأية هيئة سأبدو إذا أعلنتٌ لُغوقة هنا في البار حيث تركتّه وحيث ينبغي أن ينتظرني دوماً: «تمام؛ وافق ساركوزي»: سوف يستقبل من تريدون؛ من نريده بسرور هذا حدث تاريخي ‏ وإذا استقبلهم مُستشار حين يصيرون في باريس؟ قال مارك الذي كان حاضرا والذي صوّر المحادثة سِرَا وفهم من إجاباتي أن الأمور تسير بالأحرى على ما يُّرام: أين المشكلة؟:. أما جيل الذي التحق بناء ووضعتُّه في الصورة على عجّل فخاطبني مُطمئناً: «قال لك ساركوزي إِنَّه سيستقبلهم, إذاً سيستقبلهم» هذا أمر بسيط هذا رائع هيا بنا نُخبر غوقة الذي ينتظر. عُدنا إلى الفندق وكان جيل ومارك يركضان تقريبا وحالي كحال كودي جاريه الشرّير الذي مثل دورّه جيمس كانيي في فيلم «راوول والش» جهنم له الذي مات بسبب آلام صُداعِه النصفي . كان غوقة جالساً في الزاوية الأبعد من البار مع رجل بطربوش أحمر لاشكٌ أنه واحد من الوجها لم يكن هناك قبل قليل؛ وها نحن نراهما معهاً الآن غارِقّين في حديث طويل ومُريح. أخبره جيل بإطلاق قوله: تمام؟.  كرّر جيل باهتياج: «تمام», لأن هدوء غوقة وطريقته في مُراقبتنا بتحفظٍ غريب بدل أن يرقص من الفرح؛ أغاظه: رئيس الجمهورية الفرنسية سيستقبلكم. إذاً فهو يعترف بكم وعليكم تحديد التاريخ وتسمية أعضاء الوفد هيا بنا إلى عبد الجليل!

لكن غوقة لم يقّل شيئاً. تأمل جيل مليا وراح يُراقبني معبرا بلطف عن قلقه من صداعي  أخذ رشفة قهوة كما لو أن أمامه مُتسَع من الوقت. وتبادل بعض الكلمات بالعربية مع جليسه. واستغرق ثوان كثرة؛ ثوان طويلة بدا قبل أن يجيبنا قائلا: شكراً يا أصدقائي شكراً جزيلاً. سأنقل الخبر إلى المجلس الذي يمر الآن كل شيء من خلاله. هل من الّْمكِن أن نلتقي هنا بعد ساعة؟ لا وقت لدينا للدهشة. لنهزه. لنتأكّد من أنه فهم ما نقول له: "إذاً لم تفهموا المسألة؟" إنها فرصة وحيدة لدعوة ممثلي الشباب الشجعان المحرومين الذين رأيناهم أمس إلى أوروبا بينما كان قد وقف وانصرف‏ وهو يُكرّر قوله: علينا أن ننتظره وسيكون هنا في أقل من ساعة والقضية هامّة؛ بالفعل. خلال ذلك قدّم لنا مصطفى عبد الجليل نسخة من الصفحة المزدوجة المطبوعة على ورق الحرير. هؤلاء الناس غريبو الأطوار. لا خيار لنا في الواقع إلا الصَّبر.

السبت 5 آذار/مارس. آخر النهار (الاتصال الثاني بنيكولا ساركوزي ونتائجه مضت ساعتان. ما نزال في تيبستي. بفضل واحد من الألغاز التي تُكوّن ليبيا سرّه مرّت الرسائل النصيّة وهكذا تلقيت عدّة رسائل من ليفيت يطلب مني أسماء أعضاء الوفد الذين سوف يستقبلهم ساركوزي ويرى بآن أمين سرّه الخاصٌ سوف يتصل بي ليُحدّد لي موعداً معه فور عودتي إلى فرنسا. ذهب جيل ومارك إلى المحكمة العليا الواقعة على الكورنيش حيث لا أحد يعرف عنه حتى الذين كانوا هناك بدوا لهم غريبين أحياناً يتعرّفون عليهما لكنهم سرعان ما يتجنبوهما ما الذي يحصل؟ هل يُمكن أن تكون المشكلة نابعة في النهاية مما حصل؟ هل عبد الجليل مشغول؟ هل هو حذر؟ هل يُمكن أن تكون هذه الفكرة التابعة من مجهول تقترح عليه انفتاحاً هائلاً بدت له؛بعد أن فكدر فيها أجمل من أن تُصِدَّق؟ بدت مثيرة للشكٌ؟ عبثية؟ كل شيء تمكن. سوف ننظر في الافتراضات كلّها. فمع مرور الزمن وبمساعدة البارانويا تخيّلنا واحداً من مواطنينا صحفياً أو غير صحفي يحذر الليبيين. أو رُبما يكون قد حصل اتصالٌ أيضاً وهذا سيكون أهون الشرور لأن الأشياء ستتم في نهاية المطاف . بين المجلس والطرّف الآخر ليس الإليزيه بالطبع لأن ليفيت طلب مني أسماء أعضاء المجلس التي طلبتها وزارة الخارجية الفرنسية التي لم أكن أبداً محبوباً فيها وبذلك تكون الوزارة قد تولّت القضية بنفسها. شرح هذا أمرٌ آخر تماماً. وسوف نكتشفه بعد ساعة ونحن ما نزال في بار الفندق؛ لا نعود ننتظر غوقة في الواقع بل نعيش إحباطاً ويستولي علينا القلّق يُرافقنا دوار الشمس الذي اتَّخذْ من جديد هيئة السيّد الذي يعرف شيئاً كثيراً ولا يُريد أن ينطق. مساء الخير هل بحتم عنًا؟ ها نحن هنا... إنه غوقة لم نرّه يدخل . يُرافقه الوجيه الذي رأيناه سابقاً معه. أخيراً! مكتب رئيس الجمهورية يطلب منّا أسماء أعضاء الوفد... جلس غوقة. وطلب فنجان قهوة. "انتظروا. لا تتسرعوا. المجلس مجتمع الآن. يُشرّفه الاقتراح. وهو ممتنّ لكم وممتنّ للرئيس ساركوزي. لكنْ ببساطة من الصعب في نظرنا أن نأتي إلى باريس هكذا من دون الاعتراف بنا..." كيف هذا من دون الاعتراف بكم؟ أنتم مُعترّف بكم في الواقع! المجيئ إلى باريس يعني الاعتراف! نعم ولا .. صعبٌ علينا حقاً أن نأتي إلى باريس من دون أن تم التفاتة أولى... فمجلسنا تشكل تواً... والوضع العسكري غير جيّد... ولا نستطيع أن نرتكب خطوةٌ غير صحيحة... ‏لما رأيت موقفه. مهما كانت درجة إدهاشه؛ قد تجمّد وأنّه ليس موقفه بل هو موقف المجلس وأنه لن يتزحزح بعد.. رَجُوتهِ أن ينتظر بدوره عدّة دقائق وصعدت إلى غرفتي لآتي بهاتفي المحمول. وأخرّج إلى سُلَّم الفندق ‏ وأنا أظن أنَّ عند هؤلاء الناس رباطة جأش هائلة اتصلتٌ مرّتين. المرّة الأولى مع جان دافيد ليفيت الذي كانت ردّة فعله مُطابقة في الجوهر لردّة فعلي: «الاعتراف هو الزيارة» وفرنسا لا تستطيع أن تتصرّف بلياقة بأكثر من أن تستقبل على أعلى مستوى مبعوثي المجلس المتشكّل توّا. ‏والاتصال الثاني مع رئيس الجمهورية الذي أعلمته بالوضع وكانت ردّة فعله مُفاجئة جدّاً أيضاً إذ يُذَهلِني لكن بعكس ذهولي من موقف غوقة والمجلس الوطني الانتقالي. قال بكليات واضحة: «نعم» أفهم ذلك؛ موقفهم منطقي سوف أفكر لكنّي سأجد حلا تعال لرؤيتي فور عودتك يوم الاثنين صباحاً. ‏اكتشفت الحل بعد ساعة حين كنت قد صعدتُ إلى غرفتي اكتشفته كما اكتشفه أهل  بنغازي من ضجيج المدينة. إذ بدأ هذا بضوضاء أبواق السيّارات تحت نافذتي. ثم تعالت صيحات الفرح وتناهت إليّ. ورأيت مجموعة من الناس تتجمّع على الأقدام على شاطئ البحر ثّمَ تتجه إلى الكورنيش مُنشِدةٌ اسم ساركوزي فنزلت الدرج أربعاً أربعا ورأيت أمام الفندق من جديد مارك وجيل. فانخرطنا بين الناس وحاولنا أن نفهم ما يجري. قال أحدّهم: اعترفت فرنسا قبل قليل بالمجلس الوطني الانتقالي. فاضاف آخر: لا لم تعترف به ولكنّها رحبت بتأسيسه؛ وهذا شيء رائع. حين وصلنا إلى الكورنيش صعدنا إلى الطوابق العليا حيث أرانا البيانَ الذي أعلنه الإليزيه والذي تبثّه وكالات الأنباء العربية أُحَدُ أعوان غوقة المزدحم بالعمل؛ المنهك الذي يتلقّى وابلاً من الُمكالمات الهاتفية؛ ومع ذلك فهو مُغتبط. يقول البيان: "تُرحُب فرنسا بالمجلس الوطني الليبيّ وتدعم مبادئه وأهدافه التي يعمل من أجلها. وتهنئ نفسها بإرادة الوحدة التي توّجت تأسيس المجلس وتُشْجّع المسؤولين فيه والحركات التي تكوّنه أن يُكملوا عملّهم بهذه الروحية. وتّدين فرنسا الاستخدام غير المقبول قوّة ضِدّ المدنيّين وتتوجّه إلى أقارب ضحايا المواجهات الجارية في ليبيا. وتحيي شجاعة الشعب أمام العُنف في الزاوية وفي غيرها من المناطق الليبية. وتدعو بإصرار إلى احترام القرار الذي أصدره مجلس الأمن وإلى إيجاد حل سيامي سريع يسمح بوقف أعمال العُنف وبتشكيل حكومة ديمقراطية تستجيب لتطلّعات الليييّن". الجماهير في الخارج تصرخ من فرط السعادة. وتوارد الناس الذين ازدادوا عدداً لسماع الأخبار أو أنهم يعرفونها لكنهم جاؤوا يحتفلون بمناسبتها يتعانقون ويُعانقوننا. حُدّد الموعد هنا غداً صباحاً: لقد قبلت دعوة فرنسا بشكل طبيعي وسوف يُعطوننا أسماء أعضاء الوفد غداً. فاختفى صُداعي تاماً.

بحثأ عن الجهاديين في درنة استيقظنا عند الفجر. عُدنا إلى الكورنيش فوجدنا أنّهِ ما يزال مليئا بالناس الذين يحملون أعلاماً عليها الأزرق والأبيض والأحمر صنْعت أثناء الليل. لم تكن أشكالا ناجحة. بعضّها كان مستطيلاً جداً. وبعضها مُربّعاً أكثر من اللازم. رأيت وأنا أقترب من أحد الأعلام؛ علماً ضخما جداً في الواقع لانه يُغطي قسما من واجهة مركز الصحافة صنعوه من قِطع قماش خَيطَتْ على عجّل ولم يلوّنوها بأحمر حقيقي ولا بأزرق حقيقي. لكنّ تأثيرها فعّال. المدينة هي التي شرعت في الاحتفال بالعيد والعيد فرنسئ. بنغازي هي التي قرّرت بعد هذه السلسلة غير المتوقّعة من المكالمات الهاتفية: واللقاءات؛ أن تُكرّم بلادي وهو تكريم شعبي وعفوي. حاولتٌ جاهداً ألا أكون وطنياً بإفراط. هذه الفكرة ة تفعل في شيئا. دخلتٌ بتأثر عارم مكتب غوقة الذي لم يكن قد وصل بعدٌ لكنّه أرسل مُسبْقاً ُمعاوناً كلّفه بان ينقل ِلي المعلومات الأولى عن الوفد الذي سوف يستجيب لدعوة الرئيس ساركوزي. من الأعضاء السيّد علي العيساوي الذي كان وزير المالية في عهد القذّافي ثُمّ سفيراً في الهند وبهذه الصفة كان واحداً من أوائل الدبلوماسيين يتغيّب عن الموعد (فليس لديه تأشيرة دبلوماسية لدخول أوروبا ‏ فهل يُمكن تسوية هذا الأمر؟). والسيّد محمود جبريل أيضاً الذي كان في السنوات الأخيرة؛ رئيس «تنمية الاقتصاد الوطني»؛ ورأس حركة تحرير الاقتصاد الليبي وأنه؛ بحسب الورقة المزدوجة التي أعطاني عبد الجليل نسخة منها هي في جيبي؛ مُكلّف مع العيساوي بالشؤون الخارجية للمجلس الانتقالي. ورٌبّما سيُضاف اسم شخص ثالث لا نعرف بعد من يكون. أقول لم لا تكون إمرأة؟. سيكون مُهما للرأي العام في فرنسا أن تكون امرأة من أعضاء الوفد. عندكم الأختان باغاغيف. إيمان وسلوى اللتان ستصنعان مُعجزة . سوف نرى؛ لا نعرف؛ سوف نخبركم...». أعطيتهم رقم هاتفي وعُنواني الإلكتروني» ورّقَمَي جيل ومارك وعنوانيهما الإلكترونيين. أكدوا لي أنهم لن ينتظروا حتى اللحظة الأخيرة وأنهم سوف يخبروننا فور توجُه الوفد أو أيّ عضو من الوفد إلى باريس. فقرّرت العودة إلى فرنسا دون تأخير ‏ من درنة إلى طبرق والطريق كلها بالاتجاه المعاكس حتى سالوم, ثُمّ مرسى مطروح حيث تنتظرنا الطيارة. توقفنا من جديد في درنة. قصّة «الإمارة الإسلامية» هذه التي حدثني عنها أيضاً أحد الصحفيين: في قاعة الفطور, في فندق تيبستي تُكدّرني. ولما قدّرنا أن نقلع خلال الليل لنصل إلى باريس حوالي الثامنة صباحا وأنّ معنا في النهاية بعض الوقت قرّرنا أن نقضي فيها جزءاً من النهار. حقاً النساء قليلات في الشوارع. والنساء النادرات اللواتي نراهنَ محجّبات. ثم إننا عزفنا عن إحصاء عدد المساجد. لكنْ هل هذه المدينة إمارة حقّاً؟ وإسلامية أصولية؟ طيعاً علينا توخي الحذّر. وخصوصاً أننا لن ننجح في رؤية مَن قد يكون «أمير المدينة» الأفغاني القديم؛ المدعوٌ عبد الحكيم الحصادي لكنه كما قيل لي في الجبهة مع «فرقته»» هناك حيث تحتِدم المعارك لأنّ محاربي درنة «أفضل محاربي ليبيا». لكنْ في النهاية ثمّة علامات لا تخطئها العين ‏ ولا تمضي في الاتجاه الذي يخيفني عاشور: الطالب القديم في كلية الطبّ المسلم طبعا والتقيّ رُبّما غير أنّهِ يشرح لنا قائلاً: ليبيا الغد ستعترف بالحريّة ليس فقط بحريّة الرأي بل بحريّة التفكير وأنّه أخذ بالشرح حتى لبي وقتّ الصلاة. هذه المجموعة من المحاربين تعيش تحت الخيام غير بعيد عن الجامع الكبير: أحدهم بحكي لنا عن تحرير المدينة ويُرينا آخر غاضبٌ جداً صُوّر أجساد مُقطّعة احتفظ بها في هاتفه المحمول؛ وهي تشهد على وحشية رجال القذَّافي بينما يقودنا ثالث إلى قاعة مُتصلة بالمسجد إلى حائطٍ من وجوه حيث تُعلّقَ صُوّر «شُهداء» أيام شباط/ فيراير ويُسمّيهم واحداً واحدا بنغمةٍ رثائية مؤثّرة لكنّها جليلة ‏ ومع أني نظرتٌ كثيرا وسألت كثيرا لكنني لم أرَ الفرق بين هؤلاء الثوار والثوار الشباب الآخرين الذين تمكنتٌ من رؤيتهم في اجدابيا أو في البريقة. هذا الإمام الفخور بأن مدينته هي «الأكثر تديّناً في ليبيا»» وبالروح نفسها كما لو أنْ هذا يُناسب ذاك؛ هي التي دفعت الثمن الأغلى  مائتي قتيل لثورتها ضدٌّ القذّافي: ويحتج على أن تكون درنة قد قدّمت منذ عشر سنوات إحدى أكبر فصائل «المحاربين الأجانب» ذهبت لمحاربة الأميركيين في العراق؛ وصرخ حين حدّثته عن «الأصولية» وقدّم لي كلمة «إسلام وسيط» نفسها التي قالها السيد الذي التقيت به على الكورنيش في بنغازي في المساء الأول ووقّع كلامه بالقول: لا يوجد في هذه البلاد إلا إرهابي واحد يحضر ضدناً شيئاً رهيبا هو مُعمّر القذّافي المعروف ب "المجعد". ثمّة تفصيلان أيضاً. فرنسا. أخبار البارحة مساء أثارت هنا الحميّة نفسها التي أثارتها في بنغازي. ويكاد يكون الفرح مُزعجاً كلّما قلنا نحن فرنسيون في طريقنا إلى باريس. الأكثر أهمية هو إجماع هؤلاء الشباب على أن يطلبوا بروح واحد. تدخلاً عسكرياً: لكن بأي شكل؟ ليس هذا واضحا لكنْ الدعوة واضحة؛ واليد هنا ممدودة وهنا مَن يطلب النجدة؛ فنحن بعيدون, بعيدون جداً عن أفغانستان والعراق ويُغض الغرب الذي هو غالباً الدين الحقيقي. وهناك هذه الطرفة. عند مخرج المدينة وقد هبط الليل حين كنا نبحث عن طريق طبرق صادفنا نقطة عبور غير مُتوقّعة. وهنا وللمرة الأولى منذ دخولنا ليبيا طلب الرجل المناوب الذي يعطي لنفسه أهميّة جوازات سفرنا. لاحظ تحت ضوء شُعلته وعد على جواز سفري وعلى جواز جيل العدد الكبير من الأختام الإسرائيلية. أنزلنا من سيّاراتنا. وأتى بنا تحت واقية مرفوعة على أربع سَواري أعلام تكوّن مقرٌ نقطة العبور. ودعانا للجلوس على الأرائك الغائرة التي فقدت قِشّها الموضوعة على سجّادة مُّزريّة وهذا كل أثاثهم. . والمذياع الموضوع على أعلى درجة صوت, يُمطر فيضاً من الأخبار التي خمنا أنها مُقلِقة يبرز فيها اسم رأس لانوف؛ وبن -جواد والبريقة وبنغازي وها نحن نمضي في نقاش ليلي طويل حاد لكن غير حاقدعن إسرائيل؛ والصهيونية؛ وحقوق الفلسطينيين الْمنتّهكة ‏ لكن الإزعاج الوحيد أن النقاش أخرنا قليلا. لكن كل شيء على ما يُرام. كنا في الواحدة صباحا على الحدود التي عبرناها في هذا الاتّجاه بسرعة. وني الثالثة صباحاً كنا في مرسى مطروح حيث قام بتسفيرنا موظف شبه نائم. خلال ذلك استطعت للمرّة الأولى أن أفتح بريدي الإلكتروي. كان في فيض الرسائل الإلكترونية وقد تهت في البرقيات التي بدأت تتحدّث عن انقلاب الموقف الممكن لصالح القذّافي ثلاثة أخبار. . صدر تقريري في جريدة الأحد وعنوانه «ماذا يُمكِن أن نفعل من أجل الثورة الليبية الفتيّة؟» حيث أقترح التدخل العسكري الجوّي الذي يستهدف مطارات القذّافي وتشويش منظومات الاتصال والقيادة وخصوصاً الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي بوصفه الممثل الشرعي الوحيد للشعب الليبي. وثمّة خبر عاجل من وكالة الصحافة الفرنسية يستشهد بإعلان ألان جوبّيه الذي اعترف » قبل عدّة ساعات من القاهرة» بأنَّ «الكولونيل القذَّافي ونظامه» قد «فقد الشرعية؛ وعليه «أن يتنحّى»» لكنّه أضاف في الحال أنه يُعارض بشدّة فكرة تدخل عسكريّ غربيّ في ليبياه إذ ستكون له في رأيه نتائج سلبية للغاية. وأخيراً رسالة من أمانة سرّ رئيس الجمهورية يطلب منّي أن أكون هناك غداً صباحاً بل بعد قليل الساعة العاشرة في الإليزيه. كيف سيتناغم هذا مع ذاك؟ وكيف سيتمكن ساركوزي من التوفيق بين حذَّر وزيره ونزوته الخاصّة ساعة تأكيد هذا الموعد؟ سأعرف المزيد عن هذا بعد عدّة ساعات.

يتواصل

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح 2
الأحد, 14 فبراير 2021 21:48

جدي شالوم بن يعقوب

سافرنا في السيارة ست ساعات. توقّفنا خلالها مرّة لشراء شيءٍ نشربه من مقصف صغير حيث قَدَّم لنا عامل ميكانيكي ليبي كان منفياً إلى شيكاغو منذ ثلاثين عاما ويعود الآن للقتال نسخة من تقرير التحالّف الدولي ضدّ مجرمي الحرب الذي كان في 22 شباط/ فبراير قد كتبّه في لائحة تضمّ أسماء 519 قتيلا و1500 مفقود. وتوقّفنا مرّة أخرى. في وسط الجبل: تمتم السائق قائلاً إنها قصة تبريد الْمحرّك ‏ وكانت في الحقيقة قصة عطل في السيارة وبذلك قضى وقتاً طويلاً في الحرارة الحارقة يبحث عنه تحت غطاء الْمحِرّك. ساد الصمت خلال هذه الفترة. وسطع نور باهر. الحصى على يسارنا وصخور مُنبثقة من الرمل. وعلى يسارنا مُنحدر من الحوار المسنن. تبزغ هذه الصخور الهائلة المنخفضة: عمودياً من البحر. ليس في هذا المكان إنسان واحد. ولا حيوان. ولا أثر لمسكن. أحب الصحراء؛ وأحسب حسابها. ليست هنا الصحراء الحقيقية طبعاً. الصحراء الحقيقية تبدأ في مكان أبعد. لكنْ في جغرافيّتي المْتخيّلة هذا ما أدعوه صحراء. أحب هذا الجفاف جفاف الأرض وجفاف الهواء الذي أعطاني دائما شعوراً غامراً بالخفّة. أُحب أن يكون هذا عكس التراب بصلصاله الثقيل؛ وأوحاله وجذوره. بعض الناس تُشعرهم الصحراء بالملل. ويجد بعضهم الآخر أن كل شيء مُتشابه فيها إذ لا تحتوي أيّة تضاريس. ولن أتكلّم عن أولئك الذين تُرعبهم الصحراء: حرب الصحراء، رومل، ذكريات الُمحاربين القدماء وقبلهم «كاتون»» في كتابه الفارسال» وهو حوار داخلي عن الوحوش والزواحف. ومُعاناة العطش والأجساد المحروقة والمتفسّخة. ومملكة ميدوزا الأخرى ‏ نوع من جحيم رملّ من جحيم دانتي قبل دانتي وجه الرُعب ذاته. أمّا أنا فعل العكس. الصحراء تفتح شهيّتي. الصحراء تُلهب مشاعري. أستطيع أن أقضي ساعاتٍ في تأمّل مناظرها البرونزية المشوية. ولا أستطيع أبداً أن أتحمّل في أي مكان الوقوف مكتوف الأيدي وهنا أستطيع أن أبقى يوماً كاملاً أتأمّل المزارع المهجورة أو الُمهدّمة وعد الأشجار المتحجرة وألاحظ عبر زجاج السيارة؛ انعكاسات الهواء على الأرض المحماة. جدّي شالوم كان مثلى. فهذا هو نوع المناظر التي لا بد أنه قاد قُطعان الخراف إليها طيلة حياته حياته القصيرة. كانت بني ‏ ساف المدينة التي وَلِدتٌ فيها قِبلتّه. كان يسكنها أربعة أشهر في العام يبقى مع عائلته في الصيف من دون شك: مع جدّي وأمي التي ولدتني» وايفيت» الأخت الكبرى لأمّي وأولاده الآخرين. لكن باقي العام كان يُسافر إلى وجدة على الحدود المغربية؛ مشياً على الأقدام مع خرافه البنيسفيانية الجميلة. ومن هناك يذهب إلى جرادا وكلميمة وتتغير الأبعد باتجاه الغرب وأخيراً إلى زكورة التي كانت باب الصحراء وحيث يمضي ليلتقي من جديد مع الرّعاة العرب في جبل مكون من ولاية سدرا الذين كان يلبس مثلهم؛ ويأكل التمر نفسه الذي يأكلونه» والخبز المُغمّس بالزيت نفسه أيضاً. لا أعرف شيئاً كثيراً عنه. ولا أعرف إن كان يقطع هذه المسافة البالغة على الأقل 1500 كم؛ على الأقدام أم كان يقطع جزءاً منها في شاحنة. كما أنني أجهل إن كان يقود قطعانّه بحسب المواسم» من مرعى إلى مرعى» أم كان عنده زبون غنيّ في الصحراء المغربية يُقَدّم له كل سنة حسابه من الخراف الُسمّينة التي يشتريها في طريقه. كل ما أعرف أنّه كان أميا تقريباً. أعرف إذ عثرت في خزانة أمي على وثيقة مرّض لا يكاد يعرف كيف يُوقّع اسمه عليها وهذا نادر بالنسبة ليهودي حتى لو كان فقيراً جداً. غير أني أعلم أنه كان يعرف لغة الصحراء. أعلم أنه كان يحفظ عن ظهر قلب صوت هذه الأم الأخرى أم الرمال التي كان يحبّها بلا شك بقدر ما يحب صوت الأم الأخرى في بني ‏ ساف. أعلم أنه كان قويّ البنية يمشي منذ طلوع الفجر حتى غياب الشمس وأنه حين يشتدٌ الحرٌ يفعل العكس فيمشي الليل من واحة إلى واحة ويستريح في النهار حاسباً حساب أن يسقي قطعانه في أقرب واحة. وأعرف أنه كان قويّ البنية ومريضاً لأنْه إذ كان يعتني بخرافه أكثر من عنايته بالسكري الذي يلتهم جسده. وحيث إِنّه كان يجب أن يصل إلى الشاري بصحة جيدة، انتهى بالموت في وضح النهار في منطقة تقع بين زكورة وتكنيت، موتاً جافاً هو الموت في الصحراء. هناك روايات عن موته. الرواية الرسمية: عاد في الوقت المناسب، ومات في مدينته، وقبر حسب الطقوس. والرواية الثانية التي أخذتها من فم جدّتي تقول ذات يوم سرا، وربما كان سرّها الوحيد، ومفاده أن جدّي مرض في صحراء تُوز، وما كان عنده وقت إلا ليجرجر نفسه حتى أطراف أغاديس، وقد ذهب أعمامي لوف وهيامين وموسى ومسعود, في سيّارة للبحث عنه بعد أن أخبرهم بأمره أحدٌ المسافرين. أودٌ تصديق الرواية الثانية. أن أُصدّق هذا الموت في قلب الصحراء؛ الرهيب قطعا، لكنه مع ذلك حظ تحوّلٍ جسد جدّي إلى معدن ورحمةٌ التحاق عظامه فوراً باللانهائي، وعدم فساد جسده أبدا، إِنَّه موت القديسين. أُحِبَ فكرة هذا الموت ألف مرّة أكثر من موت الآخرين الذي هو اختلاط الحياة بالموت، وانتقال المادة العفنة والتحوّل الخبيث من يرقاتٍ إلى شراغيف وديدان وهذا التكاثر كله لِلّحم الذي صار عجيناً حيث تنهض مخلوقاتٌ جهنمية تنعم بالنتن وباللحم البشري. فكيف يُراد لي أن أتأثر بموت الشاعر شارل بيغي ورأسه في الشوندر والسماء السامّة فوق رأسه؟ كيف أستطيع أن أمشي على أنغامهم، أنغام موريس بارايس وصحبه، على الأرض والموتى؟ أو على العكس: أليس هنا في هذه الصورة القاتمة في فكرة هذا الفضيل الذي إذ حالّه كحال آخيل حين أسرّ إلى عوليس بالقول: «بدل أن يحكم شعباً مُطفا» فضّل بداية أن يشرع في خدمة مربي مواش فقير ويصير «راعِيّه»» وحارس «(قطعانه»» مُختاراً حياة البداوة مُقابل الأوديسة أليس هنا أجل هنا في نهاية المطاف؛ منبع هذه الحزمة من القرّف والتمرّد التي كانت قديماً الإيديولوجية الفرنسية؟ لا تدوم إلا الحجارة. . الصحراء وحدها جديرة بالموت وجديرة بطريقة ما بحياة البشر. إنّه درس شألوم بن يعقوب والد أمي الذي يهجع في اسمي.. وصلت بنغازي عصرا وأنا متعب، لكنني سعيد..

الأربعاء 2 آذار/مارس آخر التهار (مساء 4 بنغازي) إنه الجو النموذجي للمدن البحرية الكبرى. رائحة البحر. ضباب كثيف يبدو أنه عند حلول المساء يتصاعد من الشواطئ. الكورنيش. وبناية ضخمة حسبتها عمارة قديمة لكنها في الواقع المحكمة العليا؛ لنظام القدّافي التي صارت الآن مقرًاً للمجلس الانتقالي الذي يُدير المدينة. وهذا المكان هو تقريباً ميدان التحرير في بنغازي. مركز الاحتجاجات. عدّة آلاف منهم يُرابطون فيه شيباً وصبيانا. رجال من العهد القديم؛ وشباب بكوفيّات يرفعون لافتات طبعوا عليها صُوّر ضحايا الاضطهاد. وجاء سائقو سيارات بعد أن تركوا سياراتهم في مدخل الكورنيش مشياً وثوّار مسلّحون يهتفون «ليبيا حرّة» ويُروننا على هواتفهم المحمولة صُوّر المشنوقين في بنغازي بعد أن أرسلت إلى التلفزيون؟ لأن هذه كانت طريقة الطاغية التي لم تعد تقنية انقلاب بل طريقة إعدام دائم حيث كان القذّافي والسنوسي الخبيران في عمليات الشنق اللذان كانا يُنوّعان أشكال التعذيب كا تُنوّعَ الملذات، الشنق عنقا، الشنق سقوطا، شنق بطيء، شنق بعد خصي، وكان خيالهم لا حدود له، وفي السابع من نيسان/ ابريل من كل عام» يُقدّمان للشعب المضطّهد عرضاً لجثث المشنوقين. كان هناك بعض الأئمة. ومسلّحون مُتّحدون يُعرفون بلباسهم العسكري الموحد الذي احتفظوا به. إنه شعب بنغازي، الشعب المتجمّع. مجموعة متلاحمة بأخوّة. كان بعضهم هنا منذ عدة أيام وليال لم يتوقفوا، ولم يهملوا شيئا، يبدأ هذا كما في القاهرة بالاحتلال الرمزي للكورنيش. بينما كان بعضهم يمرّون من هناك غير عابئين يقومون بجولة ويمضون لذا فالجو خليط من العزة و التسكّع. من حميّة وطراوة . وهذا جميلٌ إلى حدّ ما. نذير شؤم: ل يكن الأئمة بالتأكيد، وحتى ليس تكبيرات الله أكبر، التي تحيي رجلا واقفاً على الشرفة يشرب الشيشة ويبدو أنه زعيم ديني؛ بل في الواقع. وجود مُربْع تحت الشرفة خاص بالنساء اللواتي لم يلتزمن به جميعهنٌ، وكنّ تُحِطْنَ بناء بعضهنّ محجبات وبعضهنٌ سافرات في نوع من الثرثرة المسليّة نتيجة وجود أجانب ولسنّ مُستِعدّات لأي سبب كان للذهاب و حبس أنفْسهن في هذا المربّع. بشير خير: ساعة الصلاة كلّ الذين كانوا يقفون جانبا في الساحة المّجاورة لشاطى البحر لتدخين سيجارة أو للاستفادة من الفاصل او التقاط الصوّر. قال لي قادر الْمعلّم القديم: «إسلامنا إسلام وسيط ‏ بين ماذا وماذا؟ بين الكفر والتزمّت» بين اللاأخلاق الخاصة بالمجتمعات التي لا تؤمن بالله وجنون أولئك الذين يضعونه في مركز كل شيء؟ إسلامنا إسلام طبيعي يضعنا في مأمن من جنون العالم إن شاء الله". ثُمَ إن شيئاً يصدمني عند الليبيين جميعاً: غرابة الأجساد. لا أقول الألبسة (أطقم الخمسينيات التي تحسبّها خارجةً من النفتالين ولباس موحد يُشبه رسوم الأطفال؟؛ وألبسة تقليدية لم تعّد موجودة إلا في مدن أخرى من العالم العربي). أقول الأجساد حقاً. القامات التي تحمل الألبسة فتبدو هي الأخرى كأنها تحمل حركات عصر آخر. خشونة خفيفة في الخطو. طريقة لبقة بغرابة في السلام بهز الرأس. غياب الازدحام على الرغم من جوٌ الثورة والعيد. شيء ما لا أعرفه من التحفظ. من البطء يفقد فجأة أية علاقة مع الأساليب الُموحدة العالميّة في إحياء العيد بنفس الطريقة بين أقصى أطراف المعمورة؛ مما يُشعرني فجأة بأنني أرى فيل بالأبيض والأسود أو الصّوّر البنيّة في مُجمع صُوّر بني  ساف التي كانت أمي تحتفظ بها والتي فقدتها بعد موتها. في هذا الجانب رجال ونساء وأجساد خارجة من البرد القارص رأيتها أيضاً بعد سقوط جدار برلين عند الناجين من الجمود الشيوعي الذين قال في لانزمان عنهم ذات يوم إن هذا بالتحديد ما أذهله خلال إقامته في كوريا الشمالية منذ أكثر من خمسين عاماً. ألا ألمس هنا لمس اليد ما مثل في نهاية النهايات؛ جريمة القذّافي في الحبس والعزل والحجر وفي العمق محاولة الإعدام الروحي لأحفاد مملكة سيرين؟ ويا ليت لديّ بداية إجابة على سؤالي ذلك اليوم في باريس "عن التفاؤل والتشاؤم" وعما إذا كان يجب معالجة هذه الثورات العربية بالخشية أم بالرجاء» الخ؟ هذا هو السؤال الذي أَسيء طَرْحّه. لأنّ الحقيقة، لكن كان يتبغي أن نكون هنا على الكورنيش في قلب فورانه المزدحم للبدء بلمسها لمس اليد هي أنْ ليبيا ماتت وهي قيد الانبعاث. لم تكن فقط مظلومة ومسحوقة ومنهوبة ودامية. لم تكن خاضعة لديكتاتور مُتعطّش للسلطة؛ وللابتزاز والدم. بل كانت ميتة مِيتةٌ دماغية. فقد نجح هذا الديكتاتور ككل ديكتاتور في العالم في إنهاك عناصر الحياة في ليبيا. وهذا ما يشرح تعاطّف الغرب مع ما كان يبدو أنه حتمية الموت العربي وصمت النخب العربية التي كانت تفكر أنّ ليس أمامها إلا الصمت الجامد للموت. باستثناء أن معجزة تحدث, والموت ينتفض ويتحرّك ويمشي. كان السرياليون يسألون: هل سبق أن صفعتٌ ميتاً؟ وسوف يسأل مؤرّخو القرن الحادي والعشرين: هل سبق أن رأيتٌ ميا يُبِعَث حيّا؟ وسوف تُجيبون: نعم رأيناه مرّة فقد كانت مرّة شعوب ميتة، ليست نائمة، وميتة موتاً روحياً بقدر ما هو سريريٌ وسياسيّ ‏ وأن مُعجزة حدثت؛ حيث قال ملاك التاريخ لهذه الشعوب: اغضبي وسيري. وسارت؟ حينئذ إلى أين سوف يذهبون؟ في أي اتجاه سيكون المسير؟ هل سيسيرون بسهولة أم نصف نائمين؟ في ضوء الفانوس أم في النور الوضًاء؟ وإذا كانوا عائدين إلى الموت بعد أن خرجوا منه توًاً؟ يكفي أصلاً المسير. يكفي ألا تكون هذه الشعوب بعد أولئك الأموات. الخميس 3 آذار/مارس (حين يعود شيطان الفعل)

تعرّفنا على إنسان رائع. إِنّه صديقنا الوحيد في بنغازي. اسمه محمد عبد الملك. لكن بسبب هيئته المتقلّبة المندهشة على الدوام قررنا أن نسمّيه دوّار الشمس. عمره ستون عاما لكن يبدو في السبعين. نحيف. وجهه شديد التحول. جلده مليئ بالتجاعيد لكنه ناعم شفًاف يُشبه ورق الحرير المجمّد. يرتدي معطفاً رمادياً قصيراً جدا وضيّقاً يُعطيه مظهر المشنوق والمكبل. ربطة عنقه الأنيقة تبقى في مكانها مطويّةٌ بشكل مُزيّف حتى عندما يمشي بسرعة أو عندما نركض كما فعلنا قبل قليل. نظرته خامدة تنبعث منها لمعات الخبث والمكر. ففي حياة دليلنا السابقة في واحد من معابره إلى الجنون وقبل أن يُمنَّع من التعليم كان أستاذ لغة فرنسية فاحتفظ من تلك الفترة بفضول كل ما هو فرنسى بإتقان جيد للفرنسية؛ وبمعنى تغيّر نبرة الصوت وبنبرة فرنسية كاملة تقريبآ مع معرفة تامة بأدبنا تتوقف عند سارتر وكامو وايتيامبل. يقضي أيامه في فندق تيبستي الذي يُشكل مع فندق أوزو مقرّ الصحفيين. تُجَرجِر فيه هيكلة المُفكّك وحزنه وفي فمه سيجارة نصف مُطفأة ومُوفّرة بهذه الطريقة. كدت أجرح شعوره بأن أقترح عليه مالا مُقابل المساعدة ألتي يُمكِن أن يقدمها لنا. قال لي: لست مستقراً. أنا أستاذ لغة فرنسية. أستاذ متنقّل حقاً. أنا خوري من دون كنيسة اللّغة التي أحببتها أكثر من أي شيء آخر. لكني خوري على أية حال. وإذا رأيتموني هنا في هذا الفندق فذلك بدافع أملي في أن أسمع الحديث بهذه اللغة الفاتنة التي لم يكن عندي من مصدر للحلّم إلا من خلالها كالصّمٌ والعميان. لم يتركنا دوار الشمس طيلة اليوم. قادنا إلى ثكنة فضيل بن عمر العسكرية الواقعة على مخرج المدينة حيث كان الجيش يُطلِق الرصاص عل المتظاهرين العَزّل. وأرانا قرب مدخل الثكنة بقايا السيارة الْمفحّمة المشهورة التي كانت مليئة بأسطوانات الغاز التي فجر بها مهدي زيو أب العائلة ذو 49 عاماً أبواب الثكنة في 20 شباط/ فبراير. وقادنا أيضاً إلى قصر القذافي الأقلّ فخامة من قصر البيضاء ومع ذلك قال لنا وهو يضحك ألا ترون هذا غريباً. عندكم في أوروبا يصدمكم بالخيمة والناقة وهنا في ليبيا يعيش كغيره من الطّغاة الرفاهيّة والمال وقلّة الذوق!». ولما قال له جيل: لسنا هنا كي نملا الأمكنة بالذاكرة قادنا إلى المحكمة العليا لأن الكورنيش في الداخل هذه المَرّة وصل بنا إلى دخول قاعات المحاكمة التي صارت مكاتب للجان المشكلة منذ عدّة أيام لضان المعاملات الإدارية في المديئة. هنا ينشغلون بالطرقات.وهنا بتجهيز المدارس.وهناك بغذاء المدينة وثمة أيضاً امرأة أنيقة جميلة اسمها سلوى بقصيص تتكلم الإنكليزية بإتقان وتشرح لنا أنها ترأست لجنة وهذا لا يُتخيّل في عهد القذّافي وأنها تهتم بالنساء وحقوقهنٌ. وأختها إيمان التي كانت مثلها من أوائل المتظاهرات ضدٌ النظام طبيبة أسنان ويبدو أنها متحدّثة باسم هذه المنطقة الليبية. كذلك هناك اللجنة المكلّفة بإدارة المعلومات التي تصل متفرّقة من كلّ مكان عن الأموات والمفقودين؛ والعساكر المحروقين أحياء لأنهم رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين والمقابر الجماعية التي بدؤوا باكتشافها في ضواحي المدّن المحرّرة. أتذكّر هذه القضية المشهورة للإدارة الذاتية التي أظهرت اهتمامي بها سنة 1972 لحظة لقائي بفرانسوا ميتران لأنه كان يتعيّن علّي أن أتصنّع بأنني متخصّص لكي أدخل في حلقة هذه الإدارة. لم أكن أصدّق ذلك تماماً. كنت أكثر ماركسية من أن أؤمن بهذه المؤسسات الذاتية في المجتمع. لمس هذا في نقاشي الأوّل مع شوفينان الذي كان مبدئياً في قلب مجموعة الخبراء الكّلفة رسمياً بالملف الذي حطّمتّه باحتقاري الألتوسري هذا المصطلح البائس غير موجود في النظرية الماركسية. لكنْ هنا فجأة أمام هذا الغليان الديمقراطي الأهلي أمام لجان المستخدمين هذه التي تتولّى بنفسها شؤونها الخاصّة وتحل محل دولة إجرامية وضعيفة أفاجئ نفسي بأني اعتقدت بهذا قليلاً. فهل تكون ليبيا المضادة للقذَّافي في تلعثمها الأوّل أرضاً للديمقراطية؟ الثورة العربية عموماً وهذه الثورة العربية تحديدا مسرح واحد من مظاهر هذا الغلّيان الذي تكوّن مبادرته وابتداعه شرف الشعوب الثائرة؟ التشاؤم القابع في ذاتي وتأثير توكفيل ولاكان ذاك الذي يعرف كما كان يقول ماوتسي تونغ أن بعد الفوضى على الأرض يأتي النظام وأن الثوريين مع جهلهم لكونهم هستيريين بامتياز يبحثون دوماً عن مُعَلّم بإمكانهم أن يُسيطروا عليه؛ هذا التشاؤم يتبرم من فرط الاعتقاد بذلك. لكنّْ ما أمر المتأخر عن التقدّمية؟ والألم الذي شفِيَ من الأوهام اليسارية؟ ومرض الأمل العُضال؟ ومن جانب آخر أسائل نفسي عما يفكر فيه هؤلاء الناس وهم يروننا هكذا مُقيمين في مكاتبهم نخرج وندخل من دون استئذان تُقاطعهم: وننصحهم ونبدي رأينا في كل شي ونذكر البوسنة ودارفور واسم بيغوفيتش السابق والشيخ مجيب الرحمن أول رئيس لبنغلادش الذي ينفصل عن باكستان الغربية مثلما قد تنفصل إذا كان هذا هو الحل الأخير برقة عن ولاية طرابلس. قد لا يقبلون هذا من صحفيين في ما يبدو لي. ولا من أعضاء الجمعيات الإنسانية. ولا من الموظفين الدوليّين. وبالمقابل لم نكن تلتقي في هذا الجزء من المبنى حيث توجد مكاتب هذه الإدارة المؤقتة بأيٌّ من هؤلاء. وهل سيكون في هذا أدنى شك كنتٌ أنا نفسي سأزيله بالقول في لحظة معينة: لسنا أيَاً من هؤلاء جميعاً وتأكٌدوا على الأخصٌ أننا لسنا صحفيين سنكتب هذا المساء أو غداً أو حتى بعد غدٍ من هم الشهود وبهذه المناسبة ‏ ورأيت بصيص قلق يلوح في النظرة الجميلة لطبيبة الأسنان ‏ إنها قصة شبكة اتصالات من العاجل أن تُفصّل عن شبكة طرابلس التي تُراقب كل شيئ. ماذا إذن؟ ماذا يُمكن أن يظنوا بنا وبما نفعل هنا؟ أنا شخصيا لا أعرف. أشعر فقط أنني منذ هذا الصباح فريسة فعل يأكلني لكنّه غامض غير متُشكل؛ وليس له موضوع حقيقي. أشعر من خلال هذه الأحاديث الأولى أن الموقف بعيد عن أن يكون مطواعاً بقدر ما كنت أتصوّر حين كنت في طبرق؛ فالقذّافي يمكن أن يقوم بهجوم مُضاد ويسبّبٍ حماماً من الدم وأنا أترصّد إذن زاوية أو فكرةٌ أو مُبادرة أو شخصاً قد يُساعدني لأساعد لكن بصراحة؛ لم أعد أعرف شيئا ولم تعُد عندي فكرة مُحدّدة. وخصوصاً هم! فاسمي لا يعني لهم شيئاً.. الكتاب لم يفهموا شيئاً في الحقيقة والفلاسفة هذا أعقد أيضا ولا يظهر أنهم فهموا. فهل هذه القصة الأزليّة لشخص موجود هنا لأنّه موجود هنا؟ الشيء المتعلّق بالأوهام الكبيرة الذي نكتشفه ذات يوم وهو أنهم نجحوا في أن ينحشروا من دون أن يطلب منهم أحد ماذا وكيف, في الصورة مع البابا ورونالد ريغن» وملكة انجلتراء ومجموعة الثمانية؟ يقول دوار الشمس الذي يسمع حديثنا منذ وقتٍ دون أن يقول شيئاً «لا» أنتم لستم فيها. يقول ضاحكاً: ثمة شرح آخر لترككم تدخلون كل مكان... هو لباسكم... لباسكم بالتحديد... فلا أحد هنا يرتدي مثل هذا اللباس حتى الصحفيون لا يلبسونه.... وشدّد على كلمة sape مُنفصلة كأنه يقصد القول إِنَّه يعرف أنها كلمة خاصة؛ دارجة قليلا لا عاديّة. تذوّق الكلمة. وتمتّع بهاء استمتاعه قبل قليل بلفظ كلمة fric (مال)» وبلفظ كلمة أرتيشو (أرضي شوكي»)» وتعبير bayer aux corneilles (ظلُّ فاغراً فمّه) ‏ إِنّهِ التلدّذ باللغة الفرنسية... رُبما كان على حقٌ في النهاية. ورٌبّما كان السبب الذي ذكره صحيحاً. السبب الذي قد يستحقٌ أن أَثبت على عجّل نقطة من عقيدة: رفضي أن أَغيّر طريقتي في الوجوده وفي الانتباه لنفسي وبالتالي وعلى الأخصٌ في لباسي بحجّة أنني في مُهمّة إعداد تقرير. كم مرّة قرأت أو سمعت القول: "لا"‏ لكن ما هذه الطريقة في لباس الأطقم في بلاد تخوض حرباً؟ وقمصان ناصعة؟ إضافةً إلى أنَّ لونها أبيض؟ أجل! الاحترام الأساسي. وتقدير الآخر أو أكثر دقّة تقدير عالمّه الذي أمتنع عن عدّه عالَما آخر. وأقلّ من ذلك عن عدّه مسرحاً يجب ارتداء طقم رسمي لدخوله. لا سترة بلا أكمام مُتعدّدة الجيوب. ولا سروال عمّل. ولا سترة مشدودة على طريقة محارب قديم. فوجودي هنا في بنغازي كوجودي في باريس. أعرف أن هذا يُمكِن أن يستحضر جان كوكتو 1914 )لباس موحّد ماركة بواريه للذهاب إلى خنادق الجبهة). أو يستحضر مالابارت على الجبهة الشرقية (أحذية عسكريّة ممتازة مُلمّعة بشكل ممتاز في أسوأ الأمكنة خلاءً). أعرف أئّهم قد يقصدون هذا إذا ما تجرّأت على قوله أمام الناس كاعتراف هذا المتأنق الذي لامني على هذا منذ ثلاثين عاماً "ادغار موران" منذ عام 1977 في النوفيل اويسرفاتور: "برنار هنري ليفي الذي يشتري لباسه من محلات اليأس" لكن ماذا في وُسعي أن أفعل حين يقصدونني بقول الآخر؟ وإذا فهم كوكتو أو مؤْلّف الميؤوس منه حين أفكر بالفيلسوف ليفيناس؟ قد يكون قول دوّار الشمس صحيحاً. رُبّما كان هذا فعلاً الذي يُثِير فضولهم ويُعطينا امتيازا أن نُقَبل من دون أن نطلب ذلك؛ في قُدس الأقداس هذا. أوَليس هذا من جهة أخرى ما انتهى كمال إلى قوله لنا في سراييفو حين وافق بعد إقامة مُتكرّرة أن يشرح لنا أثناء ذلك الصباح المشهور حيث دخلنا بالمصادفة فقط لنهرب من التفجيرات كنا في بناية الرئاسة وبعد أن عرفنا أين نحن وقدّرنا حظنا طلبنا مُقابلة الرئيس وهذه في الحقيقة هيئة جيل فسترته القديمة لكنْ الأنيقة وربطة عنقه؛ أقنعتاه ذلك اليوم؛ بفعل ما لم يكن ليفعله؛ من أجل أي أحد آخر: قيادتنا حتى الدير الذي كان يختبئ فيه الرئيس بيغوفيتش حيث أسرٌ لنا بالرسالة العاجلة المشهورة الموجّهة إلى فرانسوا ميتران والتي كانت برغبة ميتران السبب المباشر في سفره المفاجئ إلى العاصمة البوسنية الُحاضّرة؟ لكن حسناً. الواقع أنني هنا. بلباسي هذا أم من دونه، الواقع هو أنني كما في البوسنة وفي دارفور وكما في كلّ مكان أستغل الموقف لأطلب مُقابلة "المسؤولين عن الثورة" لا أعرف شيئاً عنهم. ولا أكاد أعرف أسماءهم. فقد عدَّدتها لي سارا دانييل بنت جان في فندق تيبستي؛ خلال الحديث وتظاهرت بأنني أعرف هذا كلّه مع أنني لم أكن أعرف أي شيء. فقد بلغ مني التعب وازدحام الأسماء الجديدة في ذهني حدّ عدم الوصول إلى حفظها، والحاجة إلى كتابتها في باطن يدي، كي أتمكن من النظر إليها كل مرّة بسرعة قبل أن أقول اسم المسؤول الذي نطلب رؤيته: «نحن هنا للقاء السيد مصطفى عبد الجليل...» أو: هل تعرفون أين يُمكن أن أجد السيد عبد الحفيظ غوقة: الناطق الرسمي باسم السلطة الانتقالية والذي يتحدّث إلى الصحفيين. ؟. هذا يعني أن الأمر يسير على ما يُرام. فأشعر مع مرور الساعات أنَّ الفضول يتحوّل عند بعض من أخاطبهم، إلى فائدة غائمة والفائدة الغائمة إلى مشروع حساب . لا أعرف أي مشروع لكن أعرف أن هناك حسابا ولأن هؤلاء الناس ينتهون بالقول: «لا نعرف أبداً...هؤلاء الرجال غريبو الأطوار...لكنهم بسبب غرابتهم يُمكِن أن يكونوا مُفيدين...ولم لا وفي هذه الحال نقودهم إلى فلان أو علآن ومن خلالهم تُمرّر هذه الرسالة أو تلك أَحِسٌ بذلك. وأنا مُقتنِع به والحق أنني أصل إلى نهاية اليوم؛ إلى لقاء غوقة وهو محام وهيكل مُنطلق عيناه سوداوان شديدتا اللمعان، أنف دقيق، وجه ناتئ العظام؛ وكتلة من شعرٍ أسود تبدو أثقل من أن يحملها رأس. لكنها تمنحه المهابة وأنهم يعدونني غداً ورُبها بعد غد بلقاء عبد الجليل "الشخصية الأكثر أهمية كما يبدو؛ فهو القائد السري للثورة" قائد جوقتها الْمتخفي؛ لا تقولوا لي إنه ليس في بنغازي؛ بل في البيضاء مدينة ملوك ليبيا هناك حيث يدير الثورة عن بُعد؟ قيل لي إنني سوف أراه وأكّدوا لي رسمياً أنني لن أبرح المحكمة العليا قبل أن أراه.. الوقت متأخر. والطقس حارٌ. ينتظرني محام عند جماعة الفندق ليُحدّثني عن عمليات القتل التي ارتكبت سنة 1996, في سجن أبو سليم في طرابلس (1200 موقوف أعدموا بالرصاص خلال عدة ساعات ‏ ولم تسلم جثثهم أبداً إلى عائلاهم. ثمٌ يأتي ناشط في حقوق الإنسان أرسله غوقة ليُسِلّمني ملف مقتل ضيف الغزال قائلاً هو صحفي مثلك، قتل قبل ست سئوات. في أقبية المحكمة العليا . سوف تعودون إليها أليس كذلك؟ قطعوا أصابعه قائلين له إِنْ هذا سوف يُعلّمه الكتابة ثم قتلوه قبل أن يُقطّعوا جُثته. ولماذا هذا كلّه؟ لأنّه كان قد نشر مقالاً ضدّ فساد رجال القذّافي. صعدتٌ إلى غرفتي في الفندق محاولاً النوم قليلاً. لكنّ صرخات كثيرة كانت تتخبّط في رأسي. صورٌ كثيرة جداً. كثير من الأجساد الموعودة بالموت عصبت منها الأعين بالأسود. والأرض التي تنسحب تحت القدمين أو كما في سجن أبو سليم تحت القذيفة. وكثير من الأسئلة أيضاً. بدءاً بسؤال يقلِب من الآن وصاعداً كل الأسئلة الخادعة التي يُثيرها الجنس الصحفي: «من هم هؤلاء الناس؟ ماذا يفعلون هنا؟». هذا السؤال هو: ما العمل أمام هذه الجرائم وأمام مّن ُترتكب بحقّهم؟ هل أستطيع الاكتفاء بالتقرير التقليدي؛ مع الأشياء المرئية؛ وصنع المسافة وإجراء المقابلات وبعض التدوين؟ أليست هي لحظة محاولة استخدام القوّة بأسلوب اللواء مسعود في باريس أو أسلوب بيغوفيتش الذي هُرّبٍ من سراييفو؟ لا أعرف. لم أعد أعرف. انتهيت بالنوم وأنا أرى بأمّ عيني يدي دوّار الشمس ترتعشان وهو يُشعل سيجارته واسمّي عبد الجليل وغوقة مُركبانٍ في صُوَّرٍ مُعقدة.

الجمعة 4 آذار/مارس (على الجبهة)

قال لنا دوّار الشمس إن الرجل مُرابط في البيضاء. وكي لا نخسر الوقت قرّرنا الذهاب باتجاه الجبهة. الانطلاق في السابعة صباحاً. استأجرنا سيارتين. ركبت وجيل في الأولى وروسل وفرانك في الثانية. أين الاتّجاه بالضبط؟ كان. في الفندق أمس ساعة العشاء بين جماعة الصحفيين روايات مختلفة بقدر الجالسين على الطاولة. في نظر بعضهم وصل الثوّار إلى بن جواد: بعيداً وراء نهاية خط نقل نفط راس لانوف؛ على مسافة 100 كم من سرت. وفي رأي بعضهم الآخر لابْدَ أنهم في ما بعد ابن جواد يتقدّمون باتجاه طرابلس. وفي رأي آخرين أيضا القوّات المواليّة للقذَّافي هي صاحبة الحظوة ‏ وقد تكون قد أعادت احتلال بن جواد وراء رأس لانوف وهم في طريقهم إلى بنغازي. والحقٌ أنّ لا أحد يعرف شيئاً عن هذا. ويُمكن أن يكون الموقف نفسه غير قابل للإدراك لأنّه يتغيّر من ساعةٍ إلى ساعة. يبدو أن الحل الوحيد هو أن نذهب ونرى بأنفسنا. اجدابيا أولاً.. المدينة الممتدّة في قلب الصحراء؛ على مسافة ساعتين من بنغازي حيث نجد عشرات من المتطوّعين الذين لم يكونوا قبل الأيام الأخيرة قد أمسكوا سلاحاً بأيديهم والذين يُراقبون المناطق السكنية. نقطة عبور على الباب الشرقي. وأخرى على الباب الغربي. وحوالى عشر سيّارات بك آب على الساحة المركزية بعضها مُرْوّدٍ بمنصّات صواريخ مُضَادَة للطيّارات تبدو مُتحرّكة باتجاه الغرب. شرح لنا المحافظ أن مؤيّدي القذّاني أفرغوا المدينة بسهولة. تركوا وراءهم بعض الدبّابات. وتركوا أيضاًء على مستوى الباب الغربي في سقيفة مخازن أسلحة مصنوعة في روسيا وإيران وللأسف في فرنسا تلذّذ بإظهار كم تؤكّد في نظره طبيعة النظام الإجرامية. سألْنا الرائد الشاب الذي أبقاه المحافظ كي يسمح لنا بدخول المستودع: لمن في رأيكم: أَرسِلتُ هذه الأسلحة؟. فَكرّر قائلاً «لمن» باصِقاً على صندوق مستطيل نصف مفتوح عليه وسمة «كارتريج» حيث ميّزتُ صواريخ من عيار ثقيل. ألا يعني تخزينها هنا أن الطاغيّة أعلن الحرب على شعبه منذ تاريخ بعيد؟ أليست هذه بديهة؟ وإثبات لذلك. بقي أمامنا ساعتان من السفر. وصلنا إلى البريقة شبه مدينة لكنّها نهاية خط نقل نفط حقيقي أهميته الإستراتيجية كما أظنّ كبيرة: وهناك لابْد أن المعركة إذا رأينا عدد الطلقات على الواجهة والفوهتين اللتين حفرتها القنابل في مدخل المدينة كانت أكثر جديّة. لكن ليس هناك ولا هنا توتر حقيقي. فقط غارة جويّة مع بداية الصباح؛ لم توقع ضحايا. وثمّة حركة سيارات البك آب التي رأى بعضّهم أنها واصلة من الجبهة بينما هي في رأي الأغلبية كما في اجدابيا ذاهبة إلى الجبهة. إئها غاصّة بالرجال» بعضهم مُتعلّق بالأبواب؛ أو واقف على غطاء المحرّك أو على سطح السيارة وجوانبها. كلهم مدنيون تقريبا ومع كل منهم قطعة من لباس موحد وكأنهم يُريدون إثبات انتمائهم إلى جيش التحرير وهم في دورة التدريب وأحياناً كان معهم فقط عَمرة وسترة. أمام جامعة البترول سألّنا صبيّين يلبس كل منهما سترة مموهة؛ شعرهما مُلمّع يضعان قلنسوة مطوية من الخلف؛ وكانا يصنعان بأصابعهما إشارة النصر ويمشيان بخطوات غريبة مُتثاقلة قليلاً القدمان أفقيان والجسد في الخلف: أين الجبهة؟. إلى أين وصل ثوّاركم؟ هل ما تزال الجبهة بعيدة؟ ‏ يجِيب الأكبر سنا بينهما الأشقر بلحيته الصهباء اسمه عبد الرحمن ويعرف بعض الكليات الإنكليزية ‏ تماماً! يا للمُصادفة الحسّنة! نحن ذاهبان إلى الجبهة! وهاهما يثبان إلى سيارتنا: جلس أحدهما في المقعد الأمامي والآخر على المقعد الخلفي العريض ووضعا بندقيتي الكلاشنكوف بين ساقيهما وحاولا أن يشرحا لنا الموقف بإنكليزية فوضوية، قال الأول الذي كان قبل الحرب طالباً في كلية الطبّ لكنّه بسترته وكوفيّته الملفوفة حول عنقه بمربعاتها السوداء والبيضاء وخنجره المعلق بحزام على فخذه وخدّه الأحمر كان يلفظ المسبّة الُمقِذِعة كمُحارب. فردّد الآخر مهزّئاً القذافي مخنث ولوطي، وشارحاً لي بجدية أكثر مع حركات عنيفة أنهما أخذا حذاءيهما من جُثْتي جنديين من جنوده وهما ضيّقان جداً يجعلان المشي شاقاً عليها وأنهما سعيدان جداً بلقائنا! "... كل رجال القذَّافي! يا للجنود الأشرار! المرتزقة". وينطلق من هنا في حكاية طويلة ومُبهّمة فهمت منها أن جيش النظام احتجز جماعة من الشباب لحظة التقائنا بهم أمام جامعة البترول واستخدمهم دروعاً بشرية وأجبرهم عند انتقاض القوى الثورية على أن يكونوا في الخط الأول لكنّ نداء الحرية كان الأقوى: وعندما وصل الشباب إلى نقطة الاحتكاك بالثوار. هرعوا للقائهم وألقوا أسلحتهم وتآخوا معهم. وفي النهاية حين حاولت سؤالهما عن التجربة العسكرية التي يمتلكانها وعًما إذا كانا خاضا المعارك وإذا خافا مما واجهاه أجاباني مع هذا التبجّح الصّبياني بأنهما يِحلمّان أن يخوضا المعارك؛ لكنّ الفرصة لم تتح لهما بعد: «نحن نخاف؟ أبداً! هم الذين يخافون! هم الذين يفعلونها في جُبّتهم!» طالب الطب هو الذي يتكلّم ينهض قليلاً من مكانه ويهز سرواله. نحن؛ عندما يتصبب عرقنا...؟ وخفض يده هذه المرة إلى صدره وهو يدور في اتجاهي حتى صار في مستوى وجهي كانه يُرِيد أن يعصره. "نحن نعرّق عرّق البشر وهم عرقهّم من دم ولسنا في حاجة إلى رؤيتهم لكي نعرف هذا". على مشارف راس لانوف وبعد ساعة ونصف من السفر الممتع بصحبة صديقينا الجديدين بدأنا نشعر باضطراب جديد في الهيئة والنظرات ‏ وهذه خاصية لا أعرف ماهيّتها سماها "جان هتسفيلد" بخصوص البوسنة «هيئة الحرب» التي تُشير دون تأخير إلى خطوط الجبهة. للثوار في سيارات البك ‏ آب هيئة مُغتبطة. في مكانٍ خسفت في الطريق حيث يجبر الجميع على  تخفيف السرعة؛ يصرخون بفتى تقريباً طفل يستغل الزحام ليتسلّق على غطاء المحرّك ويتعلّق بحامل الأمتعة. كذلك يتوقفون لتبادل بعض الكلمات مع صديق يمشي في الطريق؛ ومعانقته والاستعلام منه عن خبر؛ وإعلامه بخبر أو الضحِك على فلاح ينقل بهدوء سلال فواكه على جرّار بدواليب عالية جداً يبدو حتى هنا كأنه خارج من القرون الوسطى. غير أني تسلَّيتُ حيئئذٍ بملاحظة الشفاه التي شققها الهواء والفهم الصامت للنظرات كما الهيئة الحازمة الجريئة التي لم تكن موجودة لا في اجدابيا ولا في البريقة. نقاط العبور أكثر هنا. تُرى على جانب الطريق دبابة مُدمّرة. وعلى مسافة 20 كم من المدينة؛ وربما 15 كم نصطدم بنقطة عبور أخيرة يقوم عليها للمرّة الأولى رجال بنصف لباس موحد. أي بسترة وقبّعة مموّهِتينْ وبأسلحة أثقل قليلاً حيث أجبرونا على الوقوف فترة طويلة. قال لي رجل يتكلم الإنكليزية ذو سلطة عالية: "لم‏ يعد أحد يمرٌ". له هيئة جندي نظامي؛ وقد يكون ضابطاً. ليس لأنّ هيئته كذلك فقط بل لأنه؛ فيما عدا قبّعة لاعب السلّة يرتدي لباساً موحّداً كاملاً. يُضاف إلى ذلك أنْ نيشاين مُعلَقّين على صدره؛ يجعلان منه ضابطاً في أعلى الرُتّب. كرّر قائلاً لنا وحدَّد لنا أن نبتعد عدّة أمتار في الرمل وأمامه غاز يُسخَّن عليه الشاي: «توقفوا هناك»؛ عبر طاقم من المراسلين الصحفيين قبل قليل وسيكون الأخير. أن العدو يقوم بهجوم مُضادة. بقينا نصف ساعة نشرب الشاي الأسود. محل جداً؛ صبّوه لنا في كؤوس بلاستيكية ونراقب سيارات البك ‏ آب المتوقفة مثلنا ومعنا. كان هناك بعض المدنيين. وكان هناك المقاتلون على الأخصٌ. من الشباب دائماً. لا يرتدون لباساً عسكرياً. ومعهم قليل من الأسلحة. في أحسن الأحوال آك47: وقاذفات قنابل. سكاكين بسيطة أو سواطير للأقل حظأً. أحياناً حاملة خراطيش أو حاملات مُسدّسات فارغة. وثمّة بعض صواريخ 14.5 المُضادة للطيّارات نصف مطمورة في ردم التراب على جانب الطريق لا تُلْمَح فورا ويتجمّع حولها الرجال كأنهم يريدون أن يرتاحوا. ثمة أيضاً إطلاق رصاص في الهواء غير أنه يعد تعبيراً عن الفرّح. ولم تعد صيحات ‎«الله أكبر» المرافقة لها تُشبه الطريقة التي طمأنتّنا خلال الليل ونحن نسمعها صافية بصوت المؤذّن. تصل شاحنة من البريقة؛ َتعج بالرجال ولا تتوقف. وتصل شاحنة أخرى من الاتجاه المعاكس تقل رجالا يبدو عليهم الإنهاك. كما تصل سيارة إسعاف صفيرها الُمدوّي وتُفرغ ‏ -وليس عندي كلمة أخرى- ‏ جسد رجُلٍ هامد ثيابه مبلّلة بالدم. تصل شاحنة صغيرة وتأخذه بينما تذهب سيارة الإسعاف في الاتجاه الآخر.  فوقنا انفجار بعيد. ثم انفجار آخر أكثر قُرباً. إلى حدّ أن الشجرة الوحيدة إلى جانبنا بدت تُطقطق. يصرخ أحد الشابين الذي لا يتكلم الإنجليزية «صاروخ!» ويستأنف آخر بإنكليزية نبرتها أمريكية مُشْدّدة «صاروخ!». لكنّ في صوتيهما خوف بقدر ما فيه جرأة. وفي طريقتهما في تحرّي الأفق وكأنهما سوف يعرفان مصدر الإطلاق اضطراب بريء يحسم أمره مع العنتريّات التي أبدياها قبل قليل. كل شيء يتجمّد حولنا. يغدو صامتاً خلال بضعة ثوانٍ. ثمّ يشرع الجميع في الصّراخ: «صواريخ» أيضاً أو «غراد»» أو يلفظون كلماتٍ بالعربية لا أحد يُترجمها لنا. ثم نتحرّك فورأ من دون أن يطرأ أي عنصر جديد» ومن دون أن يقول ضابط نقطة العبور شيئا لكننا تتحرّك بفوضى: بعض سيارات البك آب تعبر الحاجز مُزِمّرةٌ وهي تنطلق باتجاه الجبهة ومؤخراتها مزدحمة بالمُحاربين؛ بين أبوابها مفتوحة كي تسمح لأكبر عدد من الشباب الواقفين أن يُمسكوا بها ويتحايل آخرون للعودة وحين لا يتوصّلون إلى ذلك يتركون الطريق ويقطعونها من الجوانب؛ فتتكوّن جوقة من المزامير والتعرّجٍ بين الصواريخ المضادة للطيّارات. والقنابل غير الْمَنفجّرة وتتوقف سيارة فجأة لأنها تغور في الرمل فتعكف مجموعة من الشباب على جرّها وبعد تبادُل المساعدة في ما بينهم يتعلّقون بالأبواب ليهربوا في الصحراء وتسير مجموعة مُقاتلين على الأقدام تاركة الطريق للتوجّه صوب الكثبان التي يبدو أن إطلاق النار يأتي منها. أما نحن فحاولنا السير في أول دفق من سيّارات البك ‏ آب ذاك الذي يتقدّم باتجاه راس لانوف. لكنّ الضابط أوقفنا وتجادل مع السائق, ثم مع الشابين اللذين لم يقولا شيئا بل نزلا من السيارة وركضا باتجاه سيارة أخرى كانت تعبر. حدث ذلك كلّه بسرعة فائقة. صرخ بنا الضابط: «أمن» كما لو أنه يوبّخنا. شعرتٌ بعدم إمكان أي نقاش معه. فاتبعنا حركة الرجوع. على طريق العودة توقفنا أمام حاجز لم يكن موجوداً عند ذهابنا حيث يُفتّش السيارات رجال آخرون باللباس العسكري. يصعد شاب ذو نفوذ في سيارتنا. ويصعد آخر على واقيتها الخلفية. أرى جسد رجل على الجانب نائماً على الأرض دامي اللُعاب. يصرخ. تتوقف شاحنة صغيرة. تنزل منها مجموعة شباب وتهرع صوبه لحمله. وبعد 2 كم حيث وقفنا على نقطة عبور أخرى. رأينا جسداً آخر رأسه في رامة من الدم المتَخثر وقد اسود الرمل حولّه ورف من الذباب فوقه ‏ لا أحد يلفت إلى هذا الجسد أظنّ أنه ميت على كل حال هذا ما يُفهمه الراكب معنا للسائق وهو يربت عل كتفه كى لا يُخْفف السرعة صارخا "غراد، غراد".

هذا الشعور الذي يلازمني دوماً أمام موتى الحرب: الحد الدقيق الفاصل بين حالتهم السابقة وحالتهم الآن؛ رؤية دمهم التي تمنحهم فيضاً من الحيوية؛ والثقة القليلة التي نشعر بالقدرة على منحها بالتالي لحياة الأجساد من حولنا،‏ وفكرة عدم مُناسّبة هذه اللحظة لأتوقف عند هذه الأفكار أكثر من ذلك.

يتواصل  

مذكرات الكاتب الفرنسي برنارهنري "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح1
الأحد, 14 فبراير 2021 21:38

altمشهد صيد في طرابلس من مصلحتنا دائما أن تُحدّد بداية الأشياء. كان هذا قبل أمس. كنت مع جيل هرتزوق؛ في القاهرة عائدين من إعداد تقرير بصحيفتي اليبيراسيون ونيويورك تايمز سانديكات. كنت قد قضيتٌ توا خمسة أيام بين الحيرة والأمل وسط هذا الحدث الهائل غير المسبوق الذي هو الثورة المصرية. وعلى شاشة تلفزيون في المطار رأيت فجأةً طيّاراتٍ حربيّة في ليييا تنقض على فلول الُمتظاهرين العُزّل وترشّهم بالرصاص. من جانب كانت الطيّارات تبدو على حدود الغيم تغوص كما لو أنها ستتحطّم، وتبصق نيرانها. ومن جانب آخر وفي الاتجاه المعاكس كانت الفلول البشرية المذهولة, الراكضة في كل اتجاه المتجمّدة المبعثرة تتجمّع. وتتفرّق من جديد متابعة الركض. سقط رجل ولم ينهض. واختفت مجموعة لائذةً بالفرار في سحابة من الرماد والدّخان. وتطرح امرأةٌ نفسّها أرضاً وهي تلتفَ حول نفسها شاعرةً بالخجل العارم إذ انحسر ثوبها وتتردد في النهوض ثم تنهض مطويّة الجسّد. وتتوقّف إمرأة أخرى ملفوفة بملاءة كبيرة عن الركض: تخرج رأسها من الملاءة وتنظر نحو الأعلى ‏ تُشاهد الطيّارة، كان أحدُهم على الشرفة يُناديها ‏ لكنّها تسقط هي أيضاً ولا تنهض. شرفة أخرى تحترق، بدالي أن الناس يقفزون منها. وثمّة سيّارة تنبثق من الأرض وقد تحوّلت إلى دائرة من اللهب. بشر آخرون أيضاً. بشر بائسون، صغارٌ جدا كأهم يعرجون. هذه صورة. صورة بالتحديد. لكنّها تُشبه اللحظة ‎‏ التي أعلّمني فيها حميد كرزاي في مكتبه بكابول قبل تسع سنوات بخبر إعلان "دانييل بيرل" وقرّرتُ من دون أن أعلم السبب أن أكشف سر هذا الموت والتعلّق بقدّمي هذا الرّجُل. وتشبه أيضاً لحظة سابقة عندما سمحت؛ قبل ثلاين عاما في باريس آندويه مارو يطلق نداءه المؤثر لتأسيس كتيبة من المتطوعين؛ لإنقاذ بنغلادش من المجزرة ‏ بوجهه الجميل المُختلج ارتعاشا وبيده المرتجفة المتشنّجة على حنكه كما لو أنها تريد أن تسنده وتمنعه من الضياع في الديكورات، والشاب الذي كنْته يأتي طالباً على الفور موعداً وماضيا وحدّه بعد عدّة أيام إلى المغامرة على الحدود بين شِقَّي البنغال كذلك الأمر في ذلك اليوم؛ قبل أمس: حين رأيتٌ صُوّر هذا الجمع المذعور يذهب يميناً وشمالاً بين قصف طيّارات السوخوي يستولي عليهم الرّعب والعجز أمام هذا السَربٍ المتوحّش وغير المسبوق في تاريخ الاضطهاد. مُتصوراً في النهاية لأن الصوت كان قد انقطع؛ عويلٌ الناس الذين حرصوا على تغطية فرقعة الرشّاشات وعلى طرده بصراخهم، قرّرت أن أذهب إلى ليبيا لأرى، إِنّهِ القرار الفاصل. الخميس 24 شباط/ فبراير (حين تنام الديمقراطيات)

ساركوزي يُدين. وأوروبا تُبدي أسفها. ويحتجٌ أوباما. وهذه المقالات التي تشرح لنا أن القذافي بعد كل شيء... هل هو سيء إلى هذه الدرجة, القذافي؟ ألم يُغير التطرّف ويتخلى عنه ألم يكن يُحاول أن يكون تلميذاً مُطيعاً إلى حدٌ ما للمُعسكر المعادي للإرهاب؟ أليس هو من الآن وصاعداً عُنصر استقرار المنطقة المقدس هاجس الدبلوماسيّين؟ ثم إن هذا الحديث مساءً؛ مع مصرفي إنكليزي يشرح لي أنّه يعرف سيف الإسلام, الابن البكر للقذّافي الأكثر وعياً في العائلة، الأكثر عصريّة، وأنهما تزلجا معاً على الثلج، ورقصا في علب الليل في "زيرمات" وسيكون على صداقة حميمة مع الروتشيلدات الإنكليز ‏ فهل ستُعلنون الحرب على الرجل؟ كفى! علينا أن نحطّم هذه الذبذبات في جعل ليبيا سويسرا أو نمسا الشرق الاوسط؟ تريدون إضعافه؟ هل هو حقاً شخصية يُمكن أن نعتبرها كصدّام حسين؟ غريب هذا الإزعاج. كان ينبغي أن أقول هذا الفقدان للذاكرة. وهذه الإرادة في إنقاذ إنسان ما يزال يعتقد حتى الأمس قبل ثلاث سنوات حين صرّح في قمّة الاتحاد الأوروبي. وإفريقيا في لشبونه أنه «من الطبيعي» أن يلجأ «الضُعفاء» إلى «الإرهاب».ما تزال الصورة في عيني. كان هذا يوم السبت السابق لزيارة الدولة التي قام بها إلى باريس وقُرش له السجّاد الأحمر، ونصب خيمته البدوية في حدائق ماريني وصُراخ راماباد، وصمت برنار كوشنر المزعج. أرى القذّافي جالساً في قاعة المحاضرات وجهه مُنتفخ وعلى رأسه عباءة نسائية شكلها غريب يداه مضمومتان ليس من أجل الصلاة، بل تعبير ا عن المسافة والازدراء؛ وأرى ساركوزي من جديد خلقّه منحنياً من غير أن يلتفت نحوه الآخرٌ الأمير ويهمس في أذنه لكن بصوتٍ عالٍ يكفي لتلتقط الميكروفونات ما يقوله، شيئاً من مثل: يُسعدني أن أستقبلكم. هذا كله مؤسف. هذا كله مُعيب.

إِنّه الربيع في ليبيا وفيما وراء ليبيا، في العالم العربي. ونحن أعني الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين محكوم علينا ألا نفعل شيئاً. أفكر بحديثي الأخير مع ساركوزي في شهر كانون الثاني/ ينايرمن عام 2007 تماماً قبل الانتخابات: «أريد تغيير كل شيء» أريد أن أثوّر كل شيء؛ تعال الحق بي» سنصنع الثورة معا .كم أحسنتٌ بعدّم الإصغاء إليه! لَأنّ الثورة هنا. إنها الحدّث الأعظم: بعد سقوط جدار برلين في حياة أبناء جيلنا. فهو لا يتحرّك ولا يتصرف بل يجانب الثورة.. يا للعار!

الجمعة ف 25 شباط/فبراير (فيما يخص الربيع العريي)

ثمة موقفان تمكنان من هذه القضية الهائلة المتمثلة بالثورات العربية.

هناك القلقون. بل لنقل المُتشائمون الذين يعرفون أن الثورات تفشل، ولا يرون سبباً لاستثناء هذه الثورة: ميدان التحرير لا خلاف المُنتفضون الشباب على صفحات التواصل الاجتاعي (الفيسبوك)» أكيد، وماذا بعدُ؟ هل تكفي زهرة انترنت واحدة لتصئع ربيعاً ديمقراطياً؟ أليست هذه الصور الأخوية لجنود على دباباتهم مع مُتمرّدين مدنيين شباب تبلّغ من السذاجة ما يجعلّها غيرٌ نزيهة؟ أوَ لسناء نحن الفرنسيين أفضل وضعاً من أي أحد، لنعرف أنه بعد فوضى اختطاف سُجناء الباستيل حل النظام محل الإرهاب الكريه؟ وهناك المتفائلون أي الثوّار الذين يرون أنْ ليس من حقنا أن تُغلق الباب في وجه شعب حين يبدو أنه يريد التحرّر، والمضي صوب نصيب أكبر من الديمقراطية والانتصار على قدّره، ونطلب منه أن يعود يوم يُقدّم كلّ ضمانات الفضيلة، وعدّم الانزلاق، والحكمة: طبعاً هناك مخاطر مجهولة بالتأكيد لكن هل يُمكِن بهذه الذريعة أن نحكم على شعبٍ بأن يرزح تحت نير الاستبداد؟ هل يُمكننا بسبب أنه قد يمرّ بخانة الإرهاب, أن نجمّد في نظامه القديم؟ ألا تقلِب الثورة الفرنسية هذا البرهان تماماً بحكم أن ما بعد الإرهاب جاءت الثورة على روبسبيير (الترميدور) وبعد ثلاثين، أربعين. مائة سنة جاء الباقي كلّه؟ أو لم نكن نحن ديمقراطيي كل بلد ضدّ هذا الشكل المنحرف من النسبية الذي يحتكر الديمقراطية لبعض الناس «الغربيين»» ويمنعها عن آخرين (شعوب الجنوب) ليعني أن استثناء عربياً سيحكم على هذه المنطقة من العالم بالاستبداد. أترجّح بين الاثنين.

ذات يوم استبد بي قلق شديد؛ إذ لاحقتني صورة رئيس حزب الوفد المصري الليبرالي الكامل من -حيث المبدأ والحديث والمواطن العالمي الخ.. وهو يشرح لي في نهاية رحلتي إلى مصر خلال حفل عشاء عند سفير فرنسا «فيليكس باغانون»» أنْ إسرائيل جرح في خاصرة كل مصريّ. فقلتٌ له «وليبيا والمعاناة الليبية التي نرى الآن» ونحن نتعشّى على هذه الطاولة أوّل أصدائها الرهيبة. أليست ليبيا جُرحاً مفتوحا؟. فردٌ قائلاً: لا“‏ أبداً» بينما لم يتوقف هاتفه المحمول الموضوع على الطاولة» بجانب صحنه عن الاهتزاز فقطع حديثه لكي يجيب مُتذمّرا ويُرتّب أشياءه الصغيرة. ولا بدا أن المكالمة تُضايقه ضرب بإصبعه على زُرّ التوّقف كما نضرب حيواناً أليفاً لتأديبه! لا أبداً! ليس أمر ليبيا ُمشابهاً أبداً. ليست ليبيا جرحاً مصرياً لأنها قضية الليبيين وحدّهم؛ ولا تخصّكم أننتم الغربيين لأنْ هذا ملف عربي عري، على العرب أن يحلّوه بصرامة فيما بينهم. ولن تذهب طبعاً إلى حدّ المقارنة بين مجزرة يرتكبها عربي ضدّ عرب آخرين بمجزرة يرتكبها مجرم بامتياز، المجرم الأمثل مادَةٌ وجوهرا الذي هو إسرائيل.

في الغد بل في اليوم نفسه في لحظة أخرى من النهار: وقد تذكرت أن المتظاهرين في ميدان التحرير أحرقوا علما إسرائيليا، وحقّروا رمز أمريكياً فجأةً قلت في نفسي وأنا أكثر اطمئنانا وخجلاً من ردّة فعلي السابقة من خوفي غير المشرف: لعلّ بعض هؤلاء الشباب يشفى في النهاية من الوساوس المشؤومة التي تسكن الأجيال السابقة. من الْمكن أن يتعايش فيها السيئ والحسّن أو الأقلّ سوءا ومن دون العودة إلى لحظات الثورة الفرنسية، لا داعي لأن يتم ربيع الشعوب بالسوء نفسه الذي تم به منذ عشرين عاماً لشعوب أوروبا الوسطى والشرقية ‏ الصَّعْبِ والُضطرب الذي اكتّسته رياح سيّئة لكنّها ولّدت في النهاية مجتمعات ليست مُرفْهة بالتأكيد، لكنها كانت طبيعية، وبالرغم  من أنه كان لها مثلنا حسابها مع الفاشية القميئة، ومع معاداة الساميّة، لم تعتقد أنها مجبرة علة تتويجها. أنا حائرٌ ولكنني أتدرّبٍ على الاحتفاظ ببرودة أعصابي. قلق ولكني واثق أفكر في النتائج فأزنها وأعيد وزنها، محاولا أن لا أستسلِم أبداً لهذا المنحدر من التشاؤم الموجود في داخلي الذي يجعل الحكم قاتماً. أشكٌ وأحتفظ بإيماني. أبقى واضحاً من غير أن أشِتُمّ المستقبل. لا أنخدع بشيء، وخصوصا أن ليس لديّ أوهام خيالية ‏ لكني لا أحتجب أبداً في وضعية أمكر الماكرين، الذي يرى قبل الناس جميعا قُدوم الغد الحتميّ الذي سيجعله يُقلع عن غروره. يقال في لّغة الفلسفة: الاشتغال على الروح، ليس جديا ولكنه متعاقب..

السبت  26 شباط/ فبراير (كيف دخل القذافي حياتي) حدث هذا في الحال. بصورة طبيعية. حصل بطريقة غير واضحة ثم بطريقة أوضح. ثم بطريقة ضبابية، في البداية قيلت جملة فضفاضة مُلتبسة اتخذت بالتدريج شكلا كلمة كلمة وتقريبا مقطعا مقطعا،كحبر خفي في شّعلة ذاكرة مُبهُمة: لم ننتظر برنار هنري ليفي لنختلق عهد الله). ثم هو ذاو وجه متيقظ ورائع، خصلة شعر صهبا، وقبعة ذهبية من فترة ما قبل المرض، قبعة صديقي "بول جيليير" الذي كلّفه افيليب تيسون برئاسة تحرير جريدة أسبوعية منسيّة اليوم؛ وما عُدتُ أنا نفسي أفكر فيها منذ عدة سنوات اسمها الأخبار الأدبية. ثمّة إذآً تاريخ هو عام 1979: لم أرَها في ذلك التاريخ» فاعتزلتها أجل اعتزلتُها في حال نصف نائمة دائماً في حالة الأحلام اليقظة حيث يبدو لي أنها كانت تستوقفني طويلاً، وسأعيد تكوينها لأن هذه السنة؛ سنة 1979 شهدت صدور كتابي عهد الله. ثم إنَّ الأغرب الشبيه بنوع من الرّعد في الضباب الذي يغلفني أنا دوماً نصف نائم لكنّ هذا الدالٌ ينهال عل بحرفيته: اسم علّم آخرء هو اسم مؤلّف الجملة أراه بأمّ عيني هذه المرّة بحروفٍ عريضة ينبثق في أعلى واحدةٍ من هذه الصفحات التي كانت سمّة الأخبار الأدبية. صَعُب علي تصديق ذلك؛ غير أني أراه أقول لنفسي: هذا مستحيل إِنها مزحة شيطان طَبْعه خبيث يُرسل لي هذا الحلّم ذي القرنين وأقول لنفسي أيضاً هذا نمط الذكرى الزائفة أونمّط الذكرى الشاشة الذي يتكوّن مع الزمن أو ينبثق لسبب لا يعلمه إلا الله وإن لم يكن الله فعلى الأقلّ اللاوعي غيرأن هذا يؤدّي إلى النتيجة نفسها ولا أعتقد بها أكثر، ولكنّ الأمر هو هذا مع ذلك؛ فالوضوح حاضر هنا ليس وضوح اسمه فقط بل وجهه أيضاء وبالتالي فمؤلّف هذه الجملة غير الُمحتِمّل والذي انزلق اسمه من أبواب ذاكرتي المفتوحة وملامحه التي فرضت نفسها علي وأنا في يقظتي نصف واع إِنّه...القذافي» العقيد القذّافي الذي سيعرف. في طرابلس خلال مُقابلة في خيمته لماذا اعتقد أنَّ من الُمستحسن أن يقول من خلال أُوّل أسبوعية ثقافية فرنسية في تلك الفترة» إِنّه لم ينتظر برنار هنري ليفي كي... الخ. لكنْ كيف؟ وفي أيّ سياق حصل هذا؟ لاحقتني هذه الذكرى طيلة اليوم. إذ لم تتوقف الجملة عن التجوال في رأسي. حتى ذهبتٌ إلى المكتبة الوطنية ساعيا بهدف إراحة بالي إلى العثور على مجموعة هذه الجريدة الرائعة المختفيّة. وهنا كانت المعجزة! فها أنا أعثر على الجملة! أنا لا أحلم بذلك؛ بل أعثر عليها! كانت فعلاً في جريدة الأخبار الأدبية. لم يكن مُديرها بول جيلبير؛ ىما كنت أعتقد بل «جان فرانسوا كان». أعثر على الجملة في عدد 29 تشرين الثاني/ نوفمير عام 1979» داخل ملف بعنوان «انتفاضة الإسلام الكبرى» كناية عن الثورة الإسلامية في طهران. يبدأ هذا الملفٌ بافتتاحية «كان الحذرة» التي تتجنَّب أن تُدين العملية الجارية في إيران تتبعها مقالة ل "مكسيم رودانسونك" وأخرى ل«بول بلطة» عنواهها «الُميني والأخلاق؛؛ ثم «ملحمة إسلامية» يحكيها واحد اسمه «روجيه غارودي» حيث كان ما يزال يُعاشّر؛ ثم نص ل«هنري كوربان» يتلوه تكريم المثقف الإيراني الكبير «درويش شيغان» لكوربان؟ ثم تقرير صحفي من إعداد «جيل آنكوتيل» عنوانه: "يا إيران اكتشفت شعباً تؤلمه ذاكرته». وهنا وأنا محصور بين هذه النصوص. في جوار مجموع نصوص عن "اميشليه" مع بحثٍ ل"جان ‏ لوي ايزين" واجيروم غارسان» حول "هل‏ الجوائز الأدبية مُزيّفة؟" مع مقالة لأرسان نفسه عن جائزة ميديشي لعام 1979 الممنوحة لكلود ذوران، أقع على الشيء الذي أبحث عنه: ثمة على الصفحة اليُمنى" في أعلاها بتوقيع شخص اسمه «جان مارابيني»؛ ورقة بعنوان "في ليبيا القذّافي رحلةٌ في جماهيرية شعبية إسلامية" وخُصّصه لمن كان آنذاك القائد الشاب للثورة الليبية. ليس هذا حواراً معه بل هو تقريرٌ عنه. وثمّة في أثناء التقرير شواهد بين هلالين منها شاهدٌ ‏ وهنا تحديدا وتقريباً بالكلمة أتذكّر منه: "لم ننتظر برنار ‏هنري ليفي لنبتدع الديانة التوحيدية"...

ما الذي أمكن أن يحدث في ذلك اليوم؟ ما المُصادفات والتأثيرات التي تلاقت ومكنت اسمي من أن يدخل في دماغ هذا الرَّجُل وينبثق منه بهذه الطريقة؟ علمتٌ من بحثٍ بسيط أن مارابيني مؤلّف سلسلة من كتُّب التاريخ التي نفدّت جميعها باستثناء كتابي يوميّات في روسيا في عهد ثورة أكتوبر؛ ويوميات في برلين في عهد هتلر. لا أجد في أي مكان سيرته الذاتية غير أني وقد تأكٌدتٌ من أنْ اليوميات في روسيا صدرت سنة 1965 قلت لنفسي رُبما مات وإلا فقد اختفى نهائياً. وفرانسوا كان الذي أكالمه؛ لم يترك من ذكرى ((أرى بغموض...بغموض شديد...شديد جداً.. .كنت أستخدم كتاباً مأجورين على الصفحة...حتى لقد كان لدينا يساري مُتطرّف نستعين به عند الحاجة...احذر من هو؟ دونيس كيسلر...الباترون دونيس كيسلر مُعاون البارون سيليير حين كان هذا يُدير هيئة آرباب العمل في فرنسا...؟ وانطلق من قهقهاتٍ مُفاجئة صماء قليلاً لأنه وهو يعطي دوماً الشعور بأنه لا يتوجّه إلا إليه يُضيف قبل أن يُغلِق الخط وبصورة مُفاجئة أيضاًء ومن دون أن يقول إلى اللقاء؛ مثلما فعل دوماً: "إذا عرفت شيئاً جديداً عن هذا المارابيني سأخبرك؛".. نتحدّث عن سنة 1979 حيث لم يكن هناك انترنت ولا فاكس. ولا سبب منطقياً أن يقع كتابي عن الإنجيل أو اليهودية أو الديانة التوحيدية بين يدَيّ القائد البدَوي ولا أن يخطر في باله. ومع ذلك هذا ما حصل. قبل اثنين وثلاثين عاماً من أن يُصبح مجنوناً خطيراً يُرسل الطيارات الحربية ضدّ شعبه الأعزل قبل اثنين وثلاثين عاماً من أن يصير العدو رقم 1 لكل ما تعدّه البشرية من ديمقراطيين، اثنين وثلاثين عاماً قبل أن يظهر لي عرّضيَا أنّه تجسيد لما قضيتٌ حياتي في إدانته ومحاربته العقيد القذّافي هو هذا القارئ الذي لا يراه وعيُّ الشخص الذي هو أنا إذ لم يتركني أقول إنّني علّمتّه معنى الديانة التوحيدية.

الحقٌ أن هذه الفكرة بعد أن انقضى الذهول الأوّل أشعرتني بالامتعاض على نحو غريب. فقد كان يملك موهبة أن يُثير غضبي بِدّل أن أتسلى بدل أن أبدو واحداً من ملامح المزاج التي يشكل اللاوعي أفضل مؤْلّفٍ لها، بعيداً عن أجعل نفسي أنبهر بالدُرّر التي تُمرّرها الذاكرات البعيدة حين تُلِحّ عليها قليلا كأنني أكتشف بيني وبين هذا الرَّجل نزاعاً غامضاً وقديراً. أو أنني؛ وهذا هو الأدهى؛ كنت أتنبّه لتواطؤ لا يُشرّح "غير إرادي" استغنيتٌ عنه تماماً. قرّرتٌ في النهاية أن أرى في هذا الانبثاق تحذيراً بعيداً يكف عن الاستيلاء عليّ.

الاثنين 28 شباط/فبراير (غداً 4 ينغازي)

أنا مُسافر غداً إلى ليبيا. أتى القرار فوري هذا الصباح. رُبّا ترك في تقريري عن مصر ذكرى من عدّم الإنجاز. كلّ هذه المقالات في كل مكانٍ تقريبأ التي تُرَكّر على امتعاض المثقَفِينَ الفرنسيين من الربيع العربي، والتي تُزعجني. هذا الصديق القديم؛ المرتبط بالأجهزة الأمنية يقول لي إن دخول ليبيا سيكون بالغ الصعوبة لإنسانٍ مثلي فليبيا غابة لم يعد أحدٌ يُسيطر فيها على شيء. وهذا يُحيرني. في الغد في اطراد إصراري مع مرور الأيام وكنًا نشهد حدثاً تكوينيا موجته طويلة وبعيدة المدى وهذا الشيطان الذي أعرفه جيداً ليس شيطان الُطلّق بل شيطان النسبيٌ أي شيطان الحدّث الذي جعلني كأنني أجري وراء كأس مُقدّسة علمانية. أو صورة الفلول المرميّة بالرصاص من الجو التي لا تُفارقني وأنا أؤكّد أول إحصاءات القتلى وبعض تقارير المُراسلين النادرة كتقارير القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي التي استطاعت دخول ليبيا: 640 قتيلاً بحسب الفيدرالية الدولية لجمعيات حقوق الإنسان و2000 في بنغازي وحدها بحسب إحصاءات أخرى حيث يقول طبيب فرنسي عاد من هناك أمس مساء: إنها مذبحة؛ وصولاً إلى سيف الإسلام ابن القذّافي الذي يُقلّل من فداحة المذبحة مع أنه يتحدّث عن مئات الجثث...

تحدّثت بالهاتف مع «ألكسي ديكلو». أخي الصغير الُمصوّر الذي ضمن لي التقارير دائما (آخر أخبار الطفولة...الأنتيب...ذكريات نساء جميلات.. على شواطئ مُشّمسة...أجسادهنٌ الملتهبة...ضحكاتهنٌ المنعشة...) لكنّه محجوز على الحدود الليبية وللأسف؛ ليس من الجانب الآمن بل من الجانب التونسي الذي لا يُعبر. ثم مارك روسيل الذي لا أعرفه جيداً لكنّي أَحِبَ عمله، وذهبثٌ معه إلى أفغانستان، بعد موت اللواء مسعود, في المهمّة التي كلفني بها شيراك وجوسبان. كان روسيل حُرَا. ثم جيل طبعا،ء إذ كيف سأقوم برحلةٍ كهذه من دون جيل؟ أما "فرانك فافري" فهو الذي سوف يضمن حايتنا. بينما سيضع صديقي فابريس آلكو خطة رحلة جوية إلى مرسى مطروح بين الإسكندرية والحدود ‏ وهكذا سنوفّر الوقت. أخذتٌ جريدة نيويورك تايمز سانديكات وجريدة الأحد وصحُفي المعتادة (الرسالة الإيطالية والبابئيس في مدريد والاكسبرس والآفتن بوستن الاسكندينافية. أَقرّر السفر غداً. لا أعرف شيا عن هذا البلد. أجهلٌ كلّ ما سوف أَجِدٌ فيه. حتى إنني لا أملك الوقت لأجمع عنه ملفا. لكن قراري قد حُسم.

الثلاثاء 1 آذار /مارس (سيارة أجرة إلى لا مكان)

مرسى مطروح. ثم السلوم. كان الليل قد هبط. هذا المكان الذي لابْدَ أنه كان قديماً نقطةٌ حدودية عادية؛ مُنظّمةَ وقليلة الارتياد غدا أرضاً واسعة خالية حيث يتكدّس اللاجئون الهاربون من ليبيا محاولين العبور إلى مصر. اقتّحِمّت الأبنية الإدارية وحُوّلت إلى مهاجع، وصارت قاعة المرور حيث تُفحَص الأمتعة مستشفى مؤقّت. لم تعد الطريق موجودة إذ تحوّلت إلى معسكر برّي تحرس مدخله دبّابتان مصريّتان ضخمتان وقد صُوّْبت فُوهات مدفعيهما باتجاه اللاجئين. كما اختفت الجوانب حيث تستلقي على مد النظر مخلوقاتٌ كالأشباح ‏ تفترش حتى الحجارة أو الأغطية النتنة. ثمّة جرحى ومرضى وبشر يعانون من الزّحار. ولا بد أن تكون النقطة الحدودية الليبية من الجانب الآخر قد دُمّرت لأننا لا نرى من هنا حيث نوجد وحيث يُقلقلنا الجمع: ويُضايقنا التعثر بالأجساد المستلقية ونحاصّر إلا هياكل بناية يبدو أنها قُصِفْت وحول البناية وفي ما وراءها على مدّ النظر بمئات الأمتار كتلة داكنة بل سبخة من الأجساد شبيهة بتلك الموجودة على هذا الجانب تستلقي بدورها بعيداً في الصحراء المحيطة. يقف هناك جانباً مُرتزقة القذافي ومعظمهم من السود الذين هربوا من المعارك الأولى ويُراقبهم الجنود المصريون عن قُرب. ثمة عمال سُود أيضاً مرعوبون من اعتبارهم من المرتزقة. ثمّة نساء. وأطفال. وأناس يائسون؛ وآخرون يعتقدون بأنهم سيعبرون. بينما آخرون لم يعودوا قادرين على العبور لأنهم مُرهقون أو نصف مجانين كذاك الرجل الذي يُغطي وجهه بيديه ويدور حول نفسه صارخاً بأنّه هنا منذ ثانية أيام وأنَّ المصريين يوقفون كل شيء ولا يُريدون أجانب في بلادهم هذا أمرٌ رهيب. أو كالرجل الآخر الذي يلبس سترة منامته فوق-سروال جنزه على صدره نيشان ويصرخ باللغة العربية: لجأت إلى الاحتيال وما استفدت شيئاً. فهم لا يأخذون أحداً أبداً!. وكان هناك آخرون لم يستسلموا نهائيآ بل يتشبّثون جميعاً بهدفٍ واحد: العبور، العبور بأيّ ثُمَنْ الخروج من ليبيا والدخول إلى مصر الأرض الموعودة الجديدة ‏ كتلك المجموعة المحيطة بنا وتكاد توقف سيرنا، مع ناطق باسمها؛ يتحدّث بإنكليزية صحيحة لاحظت تحت دَرَنِ يديه اللتين يحرّكهما أمام وجهه. شيئاً هادئاً لطيفاً ينِمّ عن أنه مُتقّف» وقد يكون مُعلَّماً: "نحن هنا منذ ثانية أيّام ثانية أيام ونحن تُحاول أن نتخطّى الحواجز بالقوّة وهاهي مجموعة أخرى أتت من مدينتنا نفسها وعبّرت قبلنا فهل تعتقدون أنهم سيحصلون عل وثيقة إعفاء؟". ثمّة هذه المرأة خارت قواها تعلقت بطرف سروالي وانخلع حذائي حين لم تفلح في الإمساك به. وهاهي امرأة أخرى مُستلقيّة عيناها مُغمضتان وقد تشكلت حولها دائرة من النساء على الرغم من الجمهرة، وفي الجمهرة، ويبدو أُتْبنَ يحرسْنها إذ منعن روسيل من تصويرها وطلبن منًا دواءً . كان أنفها مقروضا وقد لا يكون هذا إلا وحلاً جافاً علق به أوربما هي مريضة وفي حال من الاحتضار ويستحيل التأّكد من ذلك لأنَ الحشد دفقنا من جديد والتقطنا وابتلعنا وألقى بنا بعيداً. كان ثمّة من يُريدون التحدّث إلينا ومن ينظرونإلينا ونحن نمرٌ. ومن يطلبون من مالآ ومّن يسألوننا من أين أتينا وإلى أين نذهب وكيف يمكِن أن يرغب بشِرٌ في دخول هذا البلد الذي هربوا هم منه ‏ وثمّة أولئك الذين فضَلوا التزام الصّمت واجدين فينا موظفين رسميين، أو مرتزقة من نمّط آخر أو جواسيس. إنها جمهرة. لكن من دون ضجيج. من دون ضوضاء. كأنْ مُديراً غير مرئي لهذه الجموع خفّض الصوت، وكأنٌّ الإنهاك والسأم جعل الناس مُخفضونَ درجات أصواتهم حقاً. وعلي التصريح بأنَّ لحظة جمال حلت هناك حقّاً: حين يأتي وقت الصلاة أغلب هؤلاء الناس المرضى كما الأصِحَاء المقَمّلون ولا يزالون يقظين يغتسلون ويحركون سجاجيدهم وأغطيتهم البائسة قليلا ويتوجّهون صوب مكّة ويشرعون في الصلاة.

استغرقنا ساعةٌ نعرف أين نحن، في جوارٍ بثر مرحاض قذر مُكوّن من خندق طويل مُقسّم إلى كوى تفصلها صفائح مُرتفعة؛ وفي مدخلها كتب على لوحة باللغة العربيّة "تقدمة الصليب الأخضر" المكتب في الهواء الطلق حيث المسافرون القادمون من مصر جاهزون لإعطاء جوازات سفرهم لضابط الجمارك الذي يبدو ُمخدّراً. وقضينا ساعة أخرى ليأتي عسكري؛ صاح قليلا يُوافق على أن يدلنا على كوّة جديدة أبعد مائة متراً حيث افترضنا أن نجد جوازاتنا مختومة. لكنّ هذه الكوة كانت مُقفلة بستار حديدي صغير ينفتح من حين إلى آخر لتظهر منه يد مجهولة تأخذ ُرزمة أوراق السفر التي يُناولها إياه رئيس المجموعة وتُعيد حُزمةٌ أخرى تُلقيها باتجاه جمهور الليبيين ثم تقفل الكوّة من جديد, فيلتقط الليبيون الأوراق الملقاة على الأرض التي وّضِعت في داخلها في كل مرّة تقريب استمارة كتب عليها باللغة العربية «وثيقة غير صالحة» وتُقَفَل الحلقة من جديد ويبدأ التزاحم ثانية بانتظار انفتاح الكوة القادم. هناء انتظرنا ساعةٌ أخرى وحين أعيد فتح الكوّة دُفعنا واعتّصرنا وأبعدنا بعنف والرجال في الوقت الباقي اعتادوا على حضورنا ولم يخافوا من أن يطرحوا علينا أسئلة. تفتح الكوّة ثلاث مرّات وتظهر اليد ثلاث مرّات. وثلاث مرّات لا تأتي جوازاتنا مع الوثائق. فهل من المؤكد أن تكون هناك حتمًا؟ أليست الكوّة مخصّصة للقادمين من ليبيا إلى مصر وليس لأمثالنا الذاهبين إلى ليبيا؟ حين فهمنا أنها ليست الكوّة الُمناسبة» وأن ليس هناك غيرها، نظراً لأننا وحدّنا المسافرون الذين خطرت لهم في تلك اللحظة الفكرة المجنونة في دخول جهنّم التي يُحاول الآخرون الخروج منها، وجب أن يقوم الأقوى بيننا، وهو فرانك بشقٌّ طريق بين الحشد ليذهب ويبحث بعيداً وراء الكوّة عن باب المكتب الذي تُشبهه الكوّة، الباب المخفي وراء حاوية هائلة ُرتبت فيها طرود غذاء بسكويت في الواقع يوزع على الناس بطريقة إلقاء الغذاء على الكلاب. هناك يُحاول جمركي مُتسلّط أن يمرٌ بالتدافع. يعلو قليلا ويصرخ لجمركي آخر شبه نائم: «مُهمّة رسميّة». ويجد جوازاتنا الأربعة مُلقاة على طاولة، وغارقة في رُكام من أوراق الليبيين يحملها إلى الجمركي شبه النائم ويرجوه مع تقديمه عدّة دولارات ليختمها. بعد أن صدّقنا جوازاتنا، وحملنا حقائبنا استغرقنا ساعةٌ أخرى لنعبر بحر البشر الذي يفصلنا مسافة 500 مترأ عن الطريق الطبيعي: إنها المسافة الأطول لأننا من حيث المبدأ من الجانب الليبي؛ وليس ثمّة ظلّ أي موظّف رسمي يفرض نظاماً ظاهريا. كان هناك بالضبط خروج آخر الواصلين الرجال القّساة الُمصِمّمين الذين لم يروا بعد الدبّابتين المصريّتين» ولم يفهموا أن الموقف أمامهم يائس يأس العالم القادمين منه؛ وكان هناك أربعة أجانب يعتبرون بحذر أنَّ ليس من خشية كامنة لهم.

إنها الثانية صباحاً. نحن في ليبيا في نوع آخر من الخلاء هنا حيث كل نور مُطفأ في ظلمة تامة أو تبدو كذلك على كل حال بالمقارئة مع الأضواء المرتعشة التي تنتهي بعض المصابيح المبعثرة بنشرها حول الأغطية في الجانب المصري هنا تركن ثلاث سيّارات: سيارة فورد نصف مغلقة أنزلت للتو بعض العائلات، وتبدو مُكسّرة إلى درجة جعلتنا نتساءل كيف استطاعت الوصول إلى هذا المكان وسيّارة لادا مُهِمّلة وشاحنة صغيرة ليست أحسن حالاً.. أشار روسيل إلى أن دولابها الأمامي مُفرَعْ تماماً من الهواء . غير أنها كبيرة وطويلة؛ وفيها ثلاثة صفوف من المقاعد؛ في مقعدها الأماميّ شابّان شبه نائمّين. قالا لنا طبرق؟ هل أنتم ذاهبون إلى طبرق؟ سألناهما: كم تُريدان لنقلنا إليها؟ الشابان لا يتكّلمان الإنكليزية. لكننا انتهينا بالتفاهّم والاتفاق: نعم» طبرق» ورقتان من فئة 100 دولار أي ما يُعادل راتب شهرين في عهد القذافي؛ وهكذا حشْرنا على المقعد نفسه؛ لأنْ المقاعد الأخرى حَمّلة برُزّم من الخضار. الشاحنة تسير قدر استطاعتها تلهث كحيوان عجوز تُرجرج بأسطواناتها الأربع ودولابها الأمامي الأيمن يئن في الارتجاجات. وقليل من الهواء البارد يدخل من زُجاج النوافذ الُمحطّم. الطريق مليئة بِالحفر التي كان السائق في كل مرّة يتجنّبها بمهارة. ولم يعد من شيء على اليمين ولا على اليسار الُمضاءين بالقمر الساطع إلا الصحراء باستثناء خرائب بُرِج تظهر بين حينٍ وآخر أو ظلّ جسم غير مرئي وكذلك سيّارات ُمحمّلة بالحقائب والأكياس وأحياناً حيوانات تتّجه صوب الحدود. ذلك كله الُمضاف إلى فعل التبايّن مع مُراوحتنا اللانهائية السابقة على الحدود؛ كان يُعطينا انطباع السرعة والمغامرة. وعند الأربعة أيضاً شعور بالأمان وحتى بالراحة ولو أنه غير مُعلّن. ولم نفهم أننا مع بائع خضار عليه أن يتوقف كل 10 أو 20 كم. لكي يُنَزِل حمولتّه: إلا بعد نصف ساعة حين جنحت الشاحنة في عرض الطريق وكادت تغوص في خندق لم تستطع هذه المرّة تفاديه لتقف أمام خربة معزولة حيث يقف رجلٌ مُعمّم حيّاه السائق بقوله: السلام عليكم. قدّم لنا أقراص طماطم التهمناها بشهيّة ونحن نقف في ساحة المزرعة. أعطاه الرجل المعمم ورقة نقدية مُجحعدة حاملاً إلينا بلطف عُلب صودا. كان قلقنا الوحيد أن نعرف إن كانت الشاحنة ستدور أم لا. ثمّ مُشكلة البنزين: هل لدينا ما يكفي؟ وهل فكر الشابّان في السفر حتى طبرق؟ وكيف ستتصرّف في مناطق لا توجد فيها محطّات وقود؟ وبطاريّة السيّارة؟ فالسائق يُطفئ الأنوار دائمأ فهل يفعل ذلك ليحتفظ بشحن البطاريّة؟ أعددت في حياتي كثيراً من التقارير الصحفية. لكني في العادة أتزوّد "بِمُثبت". موجة ONG موصولة من باريس. ووكالة الصحافة الفرنسية التي عرفتٌ رئيس مكتبها سابقاً في مكان آخر وأعدت الاتصال به قبل السفر. أبحث عن نقطة استناد. عن مكان وصول. لا شيء هنا. فقط هذه الشاحنة المشؤومة ‏ ولا فكرة عن العالم الذي أدخله؛ ولا عن العالم الذي ينتظرني. فندق البطنان في طبرق. توصّل موزّع الخُضار الشاب إلى أن يرمينا في الخامسة صباحاً في فندق المدينة الوحيد الذي يُديره واحد من أنصار القذَافي، والظاهر أننا كنا وحدّنا زبائنه. ولم نمتنع عن إشعاره بذلك؛ فبعد أن أخذّنا حمّاماً سريعا، وفطوراً متكوّناً من خبز بائت، وخيار وبيض مسلوق، وجبن «البقرة الضاحكة»؛ خرجنا لنبحث عن سيارة أجرة قادرة على إيصالنا مسافة‏ أبعد 500 كم حيث مدينة بنغازي. مرّت أمام الفندق كالإعصار سيارة بيك آب اذ بشباب مُسلّحين. أطلق أحدّهم رشّة رصاص من بندقية كلاشنكوف فوق رؤوسنا على الواجهة المغطاة بثقوب الرصاص، فخرج صاحب الفندق وفي يده بندقية صيد لكن من دون أن يكون أكثر انفعالاً من هذا بالحادث. وبارتخاء ومن دون تصويب وبموقف من تعود أن يفعل ذلك كل صباح، وربمّا صار هذا لُعبة بين الشباب وبينه أطلق عياراً من بندقيته باتجاه البيك آب التي كانت قد ابتعدت. زرنا المدينة زيارة سريعة. سلّمنا على الثوّار - ربا هم المسلّحون الذين أطلقوا رشّة الرصاص ‏ الذين يسيطرون تحت الخيام؛ على الساحة الكبرى للمدينة ويحَدّثوننا عن مقبرة جماعية اكتّشّفت على مسافة 10 كم من هنا. زرنا برفقتهم المدرسة التي تحوّلت إلى قاعة عرض رسوم كاريكاتورية للقذّافي رسمها صبيان المدينة. مركز الشرطة» مقابل المدرسة» محروق. وثمة ثكنة عسكرية سوّدها السّخام. والقصّة المجيدة لتمرّدٍ لا يدوم إلا-ساعات ليرى الكتائب الموالية للقذّافي إِمَا مُتفرّقة وإمًا مُنضمّة إلى الثوّار. الأشياء كما تُرى من هنا بسيطة وربما كانت كذلك فعلاً. فالديمقراطية لا تُقَهّر. وريح الحرية التي كنسّت هذه الرمال الغنية بالذاكرة ريح لا تُقاوّم. أما الذين كانوا هشين بل في مُنتهى الهشاشة والتردّد فهم العساكر الذين يفترض أنهم صاروا ديمقراطيين من ديكتاتورية هي نفسها ميؤوس منها وتبدو هنا قد تبخّرت بصورة رائعة. فالقذّافي سيسقط كما سقط حسني مبارك وزين العابدين بن علي. إِنّه قيّد السقوط. والسؤال الحقيقي الذي أطرحه على نفسي بينا كنا نأخذ الطريق باتجاه بنغازي في سيارة أجرة حقيقية هذه المرّة هو إن كنا سنصل في الوقت الُمحدّد لنشهد سقوط الديكتاتور. في ما يتصل بالرمال الغنية بالذاكرة... المقبرة الفرنسية في الجنوب مفترق طرق صوب جربوب» حيث أصرٌّ «جيل» أن نذهب ونترحّم على موتانا. بحثنا عبثاً عن قبر عضو وحدة الطيران الخاصّة الفيلسوف «آندريه زير ميلد (الذي قُتِل في قلب الصحراء عام؛ 1942 وقد حكى لي أبي عنه ففتنت به) قبل أن نعرف من رجل عجوز يرطن قليلاً بالفرنسية كان مُقرفصاً على الحدود بين القبور أمام ثلاث أثافي سوداء يغلي الماء لزوّار افتراضيين أنّ جسان زيرهيلد في مقبرة باتينيول (لفظها بانيول) إن كان هذا ما يهمكم فلا داعي للقيام بهذه السفرة الطويلة.! ثم طبرق نفسها مدينة طبرق وحصن طبرق الذي كانت تسيطر عليه طيلة 240 يوما فرقة بطولية استرالية والذي كان مسرحاً لهزيمة جيش إفريقيا الألماني. هذا أقوى مني. هذا أقوى منا. لم يبق ظرف لم نكن أنا وجيل نبحث فيه عن المظاهر نفسها. عن هذه المواعيد السريّة مع الذاكرة. عن تصادٌم الأمكنة والأزمنة. عن هذا المخزن من نماذج الأدوار وفهرسها الذي يتخطانا. عن التاريخ العظيم الذي يعود دوماً إلى تاريخ الحرب العالمية الثانية، ويبقى على مرّ السنين سيّدٍ حياتنا ومشاهدها الكبرى. فهل نصنع التاريخ. أم نريد صُّنعّه؟ وهل نصنعه بإعادة صُنعه ؟ أَوَ لسناء كثوار 1789 الذين جهدوا لتكرار حركة التاريخ القديم غير عارفين أن نصير أنفسَنا إلا حين نكون ظل آبائنا؟ أحداث 1968... حماستي المناهضة لفاشية الإيديولوجية الفرنسية... البوسنة التي لم نكن نستطيع عيشّها والدفاع عنها أمام دهشة أصدقائنا البوسنيين أشباح الحرب الإسبانية... والآن لحظة شروعنا في التحرّك؛ هذا البحث الصبيانٍي بعض الشيء عن آثار المعارك ضد النازية... وهكذا دواليك. أمَا رسوم الكاريكاتير عن القذَافي فهي أولا مُلفتة للنظر. لم أر مثلها أبدا أجل! لم أر أقوى منها وأكثر موهيةٌ وبلاغة فهي من مستوى رسوم شارلي هيبدو ويجب أن أحكي لشارل وبيلوه عن رسوم القذّافي الكاريكاتيرية المؤنّثة المحوّلة إلى شكل حيوانات؛ إلى جزّاره إلى راعي قطيع مُضحك إلى جمّل ثم إلى جرذ إلى الدكتور فولامور إلى دراكولا وإلى لائحة الأدوار السيئة كلّها صوره عن نفسه المثيرة للشفقة كان يُريد نفسه قائداً فصار مُهرّجاً. لكنّ هذا على الأخصٌّ درس الأشياء، درسٌ الأعمال التطبيقية بعظّمتها الواقعية لأنها تقول الكثير عن تفكك نظام يسقط لأنّه لم يعُد يعد مخيفا، لم يعد مخيفاً لأنّه يغوص في الغرابة، وماذا لو كانت الحماقة هي التي قتلت القذافي؟ نظاراته السوداء؟ شذوذه؟ وجهه الذي شوّهه البوتوكس وغزاه الشحوب المصفر؟ وضعياته؟ تماثيله الجداريّة؟ وماذا لو أنّه مات من الضحك الذي أوحى به إلى رعاياه حين اكتشف هؤلاء أن هذا الديكتاتور، هذا الرجل الذي وجب أن يحفظوه عن ظهر قلب منذ الطفولة، أن يُعلنوا غباواته، وأنّه كان مُهِرّجِا مهبولا مهبول/ ديكتاتور، كالملك أوبو؟ الأبله يقتل. الأبله يهزم الخوف. لم نعّد نخاف من إنسان مُضحِك إلى هذا الحدّ. الُمضحك هو الذي انتصر على الخوف، وأفضى بهذا النظام إلى السقوط. إن درس طبرق. حقيقة أطفالها. عظمة تعليم الفلسفة السياسية وملاحظة إضافية على خطاب العبودية الطوعية المشهور. وبرهانُ على أن الديكتاتورية يُمكِن أن تهلّك في الهائل في الضحك وفي الموهبة. ثّمْ نتوجّه إلى بنغازي معقل الثوّار التي يجب أن نصلها قبل هبوط الليل. توقفنا في البيضاء مدينة الملوك القدماء حيث أتى بنا «قائد» من دون رُتّبِ ومن دون أوسمة إلى القصر الصيفي للقذّافي بغرفه الأربعين المُهدّمة المنهوبة بالمسبح الداخلي الذي يستخدّم لرمي النفايات وحماماته البخارية وأحواضه المهشَّمة ‏ ثم تأتي خاصةً العلامة المنتظرة دوما في أسوأ الأحوال. أي الممرّات تحت الأرض الممتدة عدّة كيلومترات وفيها محطات تنقية المياه ومولّدات كهربائية نزعت أسلاكها وكسّرت مضْخَاتها بالجملة وملاجئ واقية من السلاح النووي هنا حيث كأننا ننزل في عمق هرّم وحيث يتجوّل سكان المدينة مع بقية من خجّل. نّم تأني درنة المدينة الساحلية التي ينبغي أن تكون إذا صدّقنا مؤيّدي النظام القديم معقّل القذافي في ليبيا وقاعدة الإسلاميين أعني «إمارة» أسّسها منذ عدّة أيام عبد الحكيم الحصادي, السجين القديم في غوانتانامو فارضاً وضع الْبُرقع وقاد سابقاً كثيراً من عمليات القتل المبرمجة لمسلمين مُتفتحين على الحداثة: هل أُحدّد بالقول إننا جُلنا في المدينة طولا وعرضاً ولم نر شيئاً يُشبه إمارةً ولا أي دليل على البرقع؟ ثم ذهبنا بالقرب من البيضاء إلى «لبْرْق» وهي منظر متوسّطي تتخلله مزارع ضخمة بواجهاتٍ واسعة تغسلها الريح: هنا قادنا طفل إلى مطار عسكري قُصِف حديثاً فصار مقبرة طيّارات حيث أعادت مجموعة من المزارعين تحسبهم خرجوا من رواية "الأمل" تمثيل المعركة التي لا بد أنها خاضتها ضد كتيبة من المرتزقة القادمين من النيجر ومن تشاد في طيّارات شحن ضخمة. المكان الذي أنزلت فيه الطيّاراتٌ حمولتها. الأمكنة الأربعة في الزوايا الأربع لِقَطر المطار حيث كمن مُزارعون في النقاط التي بدؤوا منها الهجوم. وتشهد آلاف الخراطيش على عنف تبادّل إطلاق النار. ثمة أغطية مُلقاة في خنادق عليها بقع من الدم لأنّ المعارك دامت نهارا وليلتين، وكان أنصار القذَّافي يتغطُون بها اتقاء للبرد. وعلى جُدران بعض البيوت المجاورة لطخات بُنيّة ما تزال طريّة تشهد على أساليب النظام العاجلة. عدد المزارعين الآن حوالي المائة عرفوا بحضورنا فتجمّعوا وحضروا معا وكان بعضهم مُسلَحا حتى الخط الرئيس للمطار. أما أحمد الذي يبدو أنه يتمتع بسلطة كبيرة والذي يُمكِن القول بالمناسبة إِنّه لا يُمكن أن يرسب في موضوع ملحمة الحلفاء والفرنسيون الأحرار خاصة. في هذه المنطقة من درنة وطبرق وبئر حكيم فيرى أن هذه اللطخات البنيّة تهمنا ويقول إن بإمكانه أن يُرينا منها لطخات كثيرة أخرى من اللون نفسه؛ وُجدت حول المدينة بشكل دائم. ألم تكن هذه تقنية القذَّافي؟ إخفاء الناس وحجزهم. وإعدامهم في الصباح الباكر من دون محاكمة وتسليم الجثث؛ ولا يبقى إلا هذه اللطخات. على واجهة داكنة لا تُمحى. رفضنا رؤية غيرها ‏ فهناك من ينتظرنا في بنغازي. يتواصل

موريتانيا: منظمة أهلية تشرع في نشر ثقافة المرور بغية الحد من السير
الثلاثاء, 18 فبراير 2020 16:11

altفي مسعى منه وبمبادرة ذاتية انضمت لها اخيرا كوكبة من الفاعلين الشباب اعلن الاستاذ اجيد ولد ابراهيم ولد الجيد عن اطلاق انشطة " المنظمة الموريتانية لمكافحة حوادث السير والبيئة"وهي منظمة اهلية تعني بالحد من حوادث السير في

التفاصيل
قدامى البرلمانيين تدعو لإجتماع بانواكشوط
الجمعة, 15 فبراير 2019 01:27

اعلنت الرابطة الوطنية لقدامى البرلمانين الموريتانيين، عن تنظيم اجتماع لاعضاءها سيحتضنه قصر المؤامرات في انواكشوط. 

التفاصيل
بجهود الوزيرة بنت بلال.. إينشيري ترتمي في حضن الإتحاد
الاثنين, 03 سبتمبر 2018 00:11

altاسفرت النتائج النهائية لاستحقاقات الفاتح من سبتمبر النيابية والبلدية والجهوية، عن سيطرة تامة واكتساح طال انتظاره لحزب الاتحاد من الجمهورية في جميع الدوائر الانتخابية بولاية إينشيري.

التفاصيل
<< البداية < السابق 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 التالي > النهاية >>

إعلان